Thursday 22 February 2018

المعارضة بلا مشاعر ولا خيال





في مكنونات الوجدان الشعبي حكايات تم حبكها منذ مئات السنين، ورغم ذلك القدم ومعه ما استجد من متغيرات على كافة الجوانب، إلا أن تلك الحكايات صالحة للاستدعاء كل لحظة، ومنها حكايات عن عين السخط التي تبدي المساوئ مهما كان الأمر جميلًا ومبهجًا.. وحكايات عن الناقمين على أي مكسب يحوزه غيرهم!

يقولون في الحكي الشعبي إن عالمًا جليلًا تقيًا ورعًا فضّل البقاء في داره عاكفًا على البحث والتأليف، وكان الكافة من أهل العقل يعرفون فضله، إلا أن امرأته دأبت على انتقاده ومعايرته بأنه لا صيت له ولا شهرة مثل الذين تراهم هي في المساجد وقد تحلق الناس من حولهم يستمعون لهم ويهللون لكلامهم، ولما اشتد انتقادها اضطر مولانا لأن يرتب دعوة لكبار القوم من علماء وأمراء ووزراء إلى منزله، وعمد أن يفتح فتحة في جدار القاعة الملاصق لبقية الدار، وطلب إلى زوجته أن تنظر من تلك الفتحة، وكان أن جاء المدعوون وكل من دخل يذهب إلى مولانا في مقعده وينحني مقبلًا يده ويجلس، إلى أن امتلأ المكان وبدأ الشيخ في درسه وأسهب في الشرح والجميع منصت بإتقان إلى أن انتهى ونهضوا لينتظمهم صف طويل باتجاهه وكل من وصل إليه قبّل يده ورأسه وانصرف! ولما انفض الجميع ودخل مولانا إلى داره نظر إلى الزوجة وسألها: هيه.. ما رأيك فيما شاهدتِ؟! وأجابت من فورها: يا ميت حسرة وندامة.. كل الناس المحترمين جلسوا ساكتين وأنت الوحيد المختل الذي لم يتوقف عن الكلام!

والحكاية الثانية في تراثنا البديع تُشبه الأولى مع فرق واضح، وهو أن عالمًا جليلًا بلغ مرتبة الولاية والقطبية الصوفية، وكان يؤثر الخلوة للتسبيح والتأمل، والتأليف، وكانت الزوجة تخرج لقضاء احتياجات الدار، وكلما خرجت ودخلت انهالت عليه تقريعًا وانتقادًا على عزلته وعدم فائدته، وذات يوم عادت من السوق واقتحمت خلوته وبدأ الموشح: عامل لي عالم وولي وأنت لا تقدم ولا تؤخر.. لقد تمنيت أن تكون معي في السوق لتشاهد الخلق وهي تنظر للسماء وتكبر وتهلل للولي الذي كان طائرًا في الجو.. وأنا من فرحتي به وحسرتي عليك فككت الكردان الذهبي الذي كان في عنقي وألقيته إليه فالتقطه ودعا لي! وابتسم مولانا ومد يده في جيبه وأخرج شيئًا منه وسألها: أهذا هو كردانك الذهبي؟! فشهقت المرأة وارتج بدنها وصاحت قائلة: هل كنت أنت الطائر في سماء السوق؟ وأجابها: نعم والحمد لله! ومن فورها عوجت عنقها ولسانها وشوحت بيديها وقالت: "أتاريك.. كنت طاير ودماغك في ناحية ورجليك في ناحية تانية.. طاير معووج"!

وتأتي الحكاية الثالثة، وهي من عالم الحيوان، إذ تعودت مجموعة من الفئران التسلل إلى مخزن أحد البقالين. ويقف الواحد منهم على حافة زنبيل العسل ويمد ذيله فيه ثم يلحس ما علق بالذيل من شهد، وذات مرة دخل البقال وكان أحد الفئران مستغرقًا في السطو وطارده البقال فأفلت الفأر بجسمه ولحق البقال أن يوصد الباب على ذيله فقطعه تمامًا! وذات يوم كان فأر آخر يمارس السطو واللحس، ودخل صاحبنا مقطوع الذيل ليقف مشاهدًا ومتحسرًا لكنه- وككل عاجز- وجه كلامه للآخر منتقدًا ومعبرًا عن قرفه واشمئزازه: "إخيه عليك توسخ زنبيل الرجل.. وتلحس ذيلك دون أن تغسله.. وسوف تجتمع عليك حشرات النمل والذباب وغيرها!" ورد الفأر السليم من فوره وبدون تردد "قصر ذيل يا أزعر"!

وهكذا هي حال الأشاوس الذين يدعون أنهم المعارضون في سوق السياسة عندنا.. فهم لا يعجبهم شيء.. ولا يرضون بأي إنجاز ولا يقتنعون بأي منطق سليم يحلل ما يتم في الاقتصاد والمجتمع وفي جبهات القتال.. وهم متكررون في كل العصور.. ومن حظي أن عرفت وتعاملت مع معظمهم بل إن فيهم من تجاوزت العلاقة معه حدود أنه "معرفة"، إلى مستوى الصداقة، وكلانا يعرف خبايا الآخر، ويدرك حجم وفاعلية إمكاناته السياسية، والثقافية، ومع ذلك فقد رزقهم الله سبحانه وتعالى جهازًا عصبيًا عصيًا على الاستجابة لكثير من المؤثرات، ومنها الحياء والخجل!

وقد لفت نظري تكرار المشاهد في مسيرتنا التاريخية، ومثلما لاحظت الخيط الممتد من المشير عامر إلى الفريق عنان وكتبت عنه الأسبوع الفائت، ألاحظ أن هناك من استنكر بناء السد العالي وتأميم القناة، في منتصف الخمسينيات، وقالوا إن السد يعد جريمة في حق الطبيعة وحق الأرض الزراعية، والمنشآت الحيوية كالكباري على مجرى النهر.. وعلى علاقة الدلتا بالبحر، وبعضهم كان يتهدج صوته ويكاد يبكي وهو يتذكر بحسرة صواني السردين التي كان يلتهمها كلها أثناء موسم الصيف بعد أن تخرج من الفرن ناضجة، ينز منها الدسم وفوقها أنصاص الليمون!

وكانوا يقولون إن الدول الاستعمارية الغربية كانت ستترك القناة وحدها عام 1968، فلماذا جر الشكل والحرب والدمار؟!

ومازال البعض ونحن الآن اقتربنا من نهاية الخُمس الأول من القرن الحادي والعشرين، يقدم نفس الأطروحات حول السد وتأميم القناة وحرب 1956، بل زاد عليهم فصيل جديد يتحدث بالمنطق نفسه عن حفر القناة الجديدة، وعن التسليح بالطائرات بعيدة المدى وحاملات الطائرات، وسبحان الله العظيم الخالق البارئ المصور.. تراهم وكأنهم جميعًا من سلالة خلقية واحدة، لأنهم بلا مشاعر وبلا عواطف وبلا خيال.. ولأن المساحة قاربت على النفاد فللحديث صلة.
                                 
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 22 فبراير 2018.

No comments:

Post a Comment