Wednesday 16 March 2016

عن أمهاتي.. في عيد الأم

 
كورنيش رشيد
رغم أنه كان موضوع الإنشاء ودرس الإملاء في مثل هذا الوقت من شهر مارس، إلا أنه يبقى وربما للأبد موضوعًا للإبداع والعلامة الأبرز في حياة كل إنسان.. وتبقى لكل شخص بصمته في فهمه بما لا يضاهى عند الآخرين.. وأتحدث هنا عن عيد الأم وعلاقة الإنسان بأمه.. حيث أتذكر أمي وأم أمي وأيضًا أم أبي.. وأمهات كثيرات لأصدقائي وأقربائي!

كانت صدفة أن أنحدر من أم لأم ولدت وعاشت بقرية سنديون مركزة فوة بمحافظة كفر الشيخ الآن إلى أن تزوجت جدي، وكان عمرها سبعة عشر عامًا، وكان هو قد تجاوز الخامسة والستين بقليل.. وأن أنحدر من أم لأب جاء أبوها مهاجرًا من رشيد إلى قريتنا وسط الدلتا.. أي أنهما جدتان من شمال الدلتا، ومن منطقة واحدة تقريبًا!

وفي ظني أن هذه التفاصيل الذاتية تدخل ضمن صميم التاريخ الاجتماعي المصري في القرن العشرين، وهو جانب لم يحظ بالعناية الكافية من باحثي التاريخ وعلم الاجتماع!

كانت قصة "ستي"، أي جدتي لأمي، وكان اسمها "أسما"، وليس "أسماء" نموذجًا أو حالة دراسة للعلاقات الداخلية في الأسر الريفية، وللتصاهر بين أطراف الطبقة المتوسطة إذا جاز استخدام مصطلح طبقة في حالتنا هذه!

إذ ولدت "أسما" وأختها "هانم" لأب تركي، كان مهندسًا تركيًا يشارك في بناء إحدى القناطر على فرع رشيد، وتزوج من إحدى عائلات سنديون، ثم مات بعد أن أنجب البنتين، وترك لهما ميراثًا معقولاً، إذ كفلتهما أسرة أمهما "ستي فرح"، وما أن أشتد عودهما حتى بادر الأخوال إلى سرعة تزويجهما لأكل ميراثهما!!.. وكان لجدي الأرمل زوج ابنة من جذور تركية "عائلة كركوتلي"، يعيش في قرية "الصافية" على فرع رشيد أيضًا، ويعرف ذلك المهندس الراحل، وعندما بحث جدي العالم الأزهري والتاجر ومالك الأرض الزراعية عن عروس تعرف القراءة والكتابة لتؤنس وحدته، وتساعده في قراءة المراجع بعد أن ضعف بصره، دله زوج ابنته على تلك الفتاة اليتيمة، التي تقرأ وتكتب، وكان ذلك حوالي عام 1915 حيث البنت المتعلمة عملة نادرة.. وذهب الجد بصحبة ابنه القاضي بالمحكمة الشرعية بالإسكندرية، وصحبة زوج ابنته تاجر الأقطان التركي الأصل، إلى سنديون بالمراكب من دسوق، وأهلا وسهلا.. ثم تحكي لي ستي "أسما": "بصيت من مشربية الدور الثاني المطل على صحن الدار، وقد عرفت أنه العريس القادم لخطبتي، ولأول وهلة اقتنعت أنه الشاب المرتدي الكاكولة والقفطان والعمامة البيضاء ذات الطربوش الأحمر.. ولكني عرفت أثناء انصرافهم وموافقة خالي الكبير أن العريس هو ذلك الكهل الذي يمشي أمامهما، فأصابتني "قرفة" ــــ أي القرف ــــ لأسبوع.. وبعدها أقنعوني أنه ميسور، وأنني سأعيش في رغد وخير وتم تجهيزي...

وعندما تم العقد "كتب الكتاب" أخذوني إلى المركب الكبير المسافر من سنديون إلى دسوق، ومنها إلى كفر الزيات، ومنها بالركايب ــــ خيل وجمال وحمير ـــــ إلى بلدكم جناج.. وكان معي جهازي وفيه قنطاران نحاس، وأقة ذهب، وماكينة خياطة سنجر وباترينة "نيش" من خشب الجوز ومرايتها بلجيكي.. ووابور جاز بريموس.. وعندما أحضر لي جدك الجاز "الكيروسين" لإشعاله هربت خالتك السيدة ابنته البكرية من زوجته الأولى وزوجة أخيها أحمد واختبأتا داخل الغرفة وأطلتا برأسيهما من وراء الباب لرؤية هذا العفريت مشتعل الرأس"!

وتستكمل ستي "أسما": "وبقيت مع جدك من سنة 1915 إلى أن مات سنة 1942 لأنجب أخوالك لطفي وحلمي وأمك جليلة، ثم كمال وحمدي وفهمي وفؤاد.. ثم عمدت إلى تسقيط ما في بطني بعد ذلك.. وكنت إذا دخل الليل أشعل اللمبة نمرة 30 وأحضر الكتب التي يطلبها من مكتبته الضخمة وأبدأ بالقراءة.. وكان قد علمني لف الدخان في ورق البافرة، ويأمرني أن أشعلها له.. فتعلمت التدخين معه.. وحفظت معظم ما كنت أقرأه له، ومنه ديوان المتنبي وأجزاء من ألف ليلة.. وأجزاء من كتب الفقه وكتب التفسير"!

على الجانب الآخر كانت أمي لأبي مولودة لأب قادم من رشيد كما أسلفت، وكان صاحب ورشة حدادة كبيرة، ورغم كبرها ويسره المادي الملحوظ، الذي أدركت أنا بعضا كبيرا من آثاره، إلا أن الفلاحين في الريف المصري كانوا ينظرون نظرة فوقية لأصحاب الحرف اليدوية من حدادين ونجارين وحلاقين وخواصين ـــــ صناع المقاطف والقفف ـــــ وغيرهم.. وكانت ستي الحاجة حليمة إبراهيم شادي امرأة قوية ومحورًا لتماسك العيلة، فهي الخزانة المالية.. وهي المشرفة على توزيع نساء أولادها على أسابيع الخدمة "سبوع ــــ بدون ألف ــــ البهايم، وسبوع الطبيخ، وسبوع كنس الدار ورعاية العيال الذين تنشغل أمهاتهم في البهايم والطبيخ...

وأيضًا كان لدى ستي سحارة "سحرية" ضخمة تجدل خيط مفتاحها في ضفيرة شعرها اليمين، وعندما تريد أن تفتحها تنزل بجانب رأسها حتى تضع المفتاح وتفتح، فإذا بخواتم ودبل الفضة والجنيهات الذهبية وشيلان الكشمير وعبايات الإمبريال والطواقي المطرزة بالقصب "ووشوش" الصديري الألاجة تخرج لمن تحب.. وما زلت أذكر واقعة دخولي معها غرفة السحارة وأنا أرتدي بنطالا جديدا، ثم فتحها للسحارة وملء جيوبي بما لا أعرف، ثم تخيط الجيبين بالمسلة والدوبارة، وأنا أكاد أصرخ لتبويظ البنطال الجديد.. ثم تعليمات صارمة، أخرج من باب سيدي منصور ـــــ باب خلفي مهجور مجاور لضريح ولي اسمه منصور ــــ واتجه إلى موقف الشركة "الأتوبيس"، ولا تجعل أحدا يراك"!.. وكانت الجيوب منتفخة، إلى أن وصلت إلى طنطا حيث منزل أبي ثم انفتح الكنز جنيهات ذهبية جورج وفكتوريا ملء حفانين!

وما زلت أذكر الرائحة المميزة للملس الأسود الذي كانت تلبسه ستي حليمة، وهي مسافرة أو عند خروجها من الدار.. ورائحة البالطو بياقته ونهايات أكمامه الفرو الذي كانت ترتديه ستي أسما.. وبينهما بين أم بالطو.. وأم ملس تشكل وجداني وشبعت حنانا استكملته أمي وتلك قصة أخرى.

هامش
 مسكين.. مسكين ذلك الذي ترك الكلام عن المنهج وتحليل الظواهر وكيفية فهمها والتعامل معها وأمسك فيما ظن أنه إهانة له.. مسكين لأنه هكذا هو من له روح لقيط وظهر عنين ونفس قواد.. مسكين يستحق الرثاء أكثر من أي شيء آخر.


 نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 16 مارس 2016

No comments:

Post a Comment