Tuesday 22 March 2016

شاعر الحي




في ألمانيا ومن قبلها في أستراليا كانت وأظنها ستبقى تجليات القوة الناعمة للمحروسة.. تلك القوة التي تساهم في تعظيمها "أسلحة مشتركة".. الموسيقى والغناء.. التجويد وقراءة القرآن.. الرهبنة والتفرد اللاهوتي والإنشاد الكنسي.. التصوف والإنشاد الصوفي.. السينما والمسرح والفنون الشعبية.. الأوبرا وأكاديمية الفنون.. ثم حدث عن العلوم والبحث العلمي في كل المجالات.. رغم بؤس الواقع وفقر الإمكانيات المادية!

في ألمانيا ومن قبلها في أستراليا، أطل ابن مصر العبقري الأستاذ الدكتور جمال مصطفى سعيد الجراح العالمي وصاحب العمليات والأبحاث التي تحمل اسمه في الدوريات والمراجع الطبية العالمية العريقة.

وكانت إطلالته لصالح الفقراء في الحزام الممتد من باكستان إلى موريتانيا، إذ قدم بحثا عمليا متكاملا عن التركيب الجيني للبكتيريا التي تصيب الملايين، وكان علاجها يعتمد على مضادات حيوية باهظة الثمن، وتوصل في بحثه وهو متصل باقتصاديات الدواء إلى أن جينات البكتيريا في منطقتنا التي يجوز أن نسميها بالشرق الأوسط الكبير لها تكوينها غير المتشابه مع مثيلتها في أوروبا، وأن استخدام المضاد الحيوي الأرخص في السعر هو المناسب لهذه البكتيريا!

رجل عالم إنسان يحمل فقراء وطنه على كتفه وكأنهم صليب خلاصه وخلاصهم، ويبذل من ذهنه وعلمه ووقته وماله ما لا يبذله كثيرون في مصر لديهم من الأموال تلال متلتلة يكتنزونها اللهم إلا "الفكة" التي يذرونها كالرماد في العيون ليقال إنهم كرام أجياد ينفقون على الأدباء وطلاب العلم!

في ألمانيا ذهب الدكتور جمال مصطفى ليلقي بحثه العلمي، ولكنه وأمام جمهور حاشد من الألمان قرر أن يتجاوز التخصص إلى ما يعتقد هو أنه لا يقل عن التخصص أهمية.. حيث يرى أن تقديم مصر الحضارة والثقافة والعلم والدور بصورتها الحقيقية اللائقة أمر يرقى إلى فرض العين كالصلاة والصيام والزكاة.. ولم لا، وهو من المدرسة العلمية والثقافية التي تجد الأمر الإلهي "اقرأ" و"تدبروا" و"تفكروا" و"سيروا" و"انظروا" أنه لا يقل وجوبا عن "صلوا" و"صوموا" و"حجوا" و"زكوا"!!، وأن من لا يعمل عقله في القراءة والتفكر والتدبر والنظر منكر لما هو معلوم من الدين!!

أمام جمهور الألمان الحاضرين وبعد انتهاء الجزء الأول الخاص بالبكتيريا، أخرج الرجل شرائح لعرضها وفيها رصد بالصور والمعلومات للأبعاد الحضارية والثقافية المصرية، وللأعلام الرموز العالمين من أبنائها الذين نال بعضهم نوبل، وتبوأ بعضهم أعلى المواقع كأمانة الأمم المتحدة.. ثم المسيرة الطويلة من المصريين القدماء في مختلف الفروع طبا وهندسة وفلكا، ناهيك عن مسيرة الإبداع الإيماني عبر مصر القديمة ومصر المسيحية ومصر الإسلامية وهلم جرا.

ولعل كثيرين لا يفطنون أن عرض الأبعاد الحضارية والثقافية للتكوين المصري يأخذ مصداقية مضاعفة إذا جاء مقترنا بتقديم تفوق مصري لعالم في الطب، أمام جمهور يقدس العلم والبحث العلمي ويجد في العلماء كنوزا نادرة، وهذا ما يفتح أمامنا الباب للتفكير في تعميم هذا المنهج المتكامل الذي ينتهجه الأستاذ الدكتور جمال مصطفى.

إنني أتصور وعبر معرفتي بالرجل أن الإنسان كل متكامل لا يتجزأ ولا يغنيه التجمل إذا عمد إليه لإخفاء نواقصه، ولا لتعظيم اكتمالاته..

وأعني بذلك أن من يبدأ من نقطة "المحلية"، ويجتهد في نطاق بلده، ويتفوق، ويتقدم ويصبح رائدا في مجاله، لابد وحتما يصل إلى العالمية وتفسح له المحافل الدولية المحترمة مكانا يليق به..

وها نحن أمام نموذج نذر جهده ووقته وعلمه وماله لخدمة وطنه، فجمع بين الأستاذية بالجامعة والبحث في المعامل والعلاج في المشافي مع جرعة اهتمام زائدة للفقراء والمحتاجين وبين الاهتمام المكثف بالقضايا العامة التي تمسك بتلابيب الوطن، ولذلك أنشأ ما أسماه "صالون الجراح الثقافي" وهو تجمع إنساني يضم خلقا من مختلف التخصصات ومختلف درجات التعليم والثقافة والمستوى الاجتماعي، وتنعقد جلساته دوريا ليناقش عبر محاضرين متخصصين القضايا المطروحة على الساحة بغير أي استغراق في المسائل الدينية والسياسية، أي بالابتعاد عما يمكن أن يفرق أكثر مما يجمع.

إننا أيضا أمام نموذج لما سبق وكتب فيه كثيرون منهم كاتب هذه السطور، وهو القدرة الدائمة على تجسير الفجوات بين عدة مستويات، ومنها الفجوة بين العالم الأكاديمي والتقني المشغول بالعلم والبحث العلمي وبين المفكر السياسي والاجتماعي وأيضا الممارس في الأحزاب والتنظيمات.. ذلك أن ما تفتقر إليه مصر وبشدة هو تكامل التخصصات والخبرات وتواصل الكفاءات بما يجعل العمل العام أقرب إلى نوتة موسيقية حافلة بالجمل الموسيقية لعشرات الآلات، ولكن اللحن يخرج عذبا ممتعا في النهاية.

تحية لعالم مصري جليل هو الدكتور جمال مصطفى سعيد الذي لم يفت في عضده ولم يثبط همته صدق المثل "لا كرامة لنبي في وطنه" و"شاعر الحي لا يطرب"!


 نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 22 مارس 2016

No comments:

Post a Comment