Thursday 17 March 2016

دمعي على دمشق


الجامع الأموي في دمشق



على الصعيد الشخصي كنت أذهب إلى الشام «دمشق» مرة على الأقل كل عام، وكانت أولى أولويات رحلتي- بعد وضع الحقائب في الغرفة- هي الوضوء، تمهيداً للتوجه إلى مرقد محيي الدين بن عربي، ومن المفارقات التي لا أنساها أن أول مرة حدث فيها ذلك وقفت أمام باب الفندق وطلبت سيارة أجرة وأعلنت عن وجهتي: أريد الذهاب إلى محيي الدين بن عربي! وفوجئت بأن ما أقوله طلسم استعصى فهمه على سائق الأجرة وعلى الحارس الواقف على باب الفندق، ووقعت في حيرة شديدة، إلى أن تدخل رجل سوري كبير السن، يبدو أنه كان يرهص السمع لما يدور، فإذا به يبتسم لي قائلا: «اطلب إليهم الذهاب إلى شيخ محيي الدين»! وبالفعل جاءت الاستجابة، لأكتشف أن حيا بأكمله وسوقا تجارية تحمل اسم: شيخ محيي الدين!

هناك وجدت مسجداً بديعاً كتب على عقد بابه أن من بناه هو السلطان سليم الأول في العام 1515 ميلادية، وصليت ركعتي تحية المسجد ثم صلاة العصر جماعة، وخرجت من الباب لأنزل درجاً ملاصقاً له، نحو عشر درجات، نزولا إلى مرقد سيدي محيي الدين بن عربي، وإلى جواره مراقد بعض تلاميذه، وجلست على السجاد أقرأ بعضا من القرآن وأردد أوراداً وأدعية، ولاحظت لوحة معلقة على الحائط الأيمن بالنسبة للدرج، مكتوباً عليها النص التالي: «اللهم صلِّ على طلعة الذات المطلسم والغيث المطمطم والكمال المكثم، لاهوت الجمال وناسوت الوصال وطلعة الحق هوية إنسان الأزل في نشر من لم يزل، من أقمت به نواسيت الفرق إلى طريق الحق، فصلِّ به ومنه وعليه وسلم تسليما».. ويستمر النص: «كانت وفاته في دار القاضي محيي الدين بن الزكي، وغسله الجمال بن عبد الخالق ومحيي الدين يحيى، قاضي القضاة ومحيي الدين بن محمد بن علي، وكان العماد بن النحاس يصب الماء.. ولد محيي الدين يوم الاثنين 27 رمضان عام 650 هجرية في مرسية من الأندلس»، انتهى النص!

وأمكث في ضيافة شيخي محيي الدين إلى العشاء، ثم أنصرف إلى جولة بصحبة الأصدقاء السوريين بني جلدتي القومية العروبية والناصرية، فأذهب إلى المسجد الأموي لأزور ضريح يوحنا المعمدان، أي يحيى بن زكريا عليهما السلام، ثم إذا اقترب الليل من الانتصاف نذهب إلى المطاعم التي تقدم «المقادم» أي كوارع الضأن المسلوقة مع تشكيلة المحاشي!

وعلى مقاهيها وفي ضيافات بعض مثقفيها تستمر اللقاءات مع الفنانين والشعراء والأدباء وأهل السياسة، ومنهم عراقيون فضّلوا الإقامة في دمشق هربا من بطش بعث العراق آنذاك، وفي مقدمتهم صديقي الشاعر مظفر النواب «أبو عادل» بشعر رأسه المرسل على عنقه، وهدوء صوته الذي يتخلى عن سكونه إذا هدر شعره!

مرة واحدة اشتركت في نشاط مغاير لذلك الذي تعودت عليه، عندما انعقد مؤتمر عن المياه العربية.. أزماتها وحاضرها ومستقبلها، وذهبت آنذاك منذ سنين طويلة ممثلا للحزب العربي الناصري بصحبة الصديق الأستاذ أحمد صبري، المحامي والأديب الروائي المتميز الذي ترك العمل في القضاء ليعمل حرا وليجد فرصة للتحقق بإبداعاته، ومن داخل إحدى الجلسات اختطفنا خلسة باستدعاء مباشر: مطلوبان للقيادة!

وتركنا الحوار، وذهبنا في سيارة فارهة إلى مقر القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي، لنلتقي السيد عبد الله الأحمر، الأمين العام المساعد، الذي كان جادا متجهما كعادة كل القيادات التي تضع «قناعا»، وتناقشنا وعرجت على موضوع المياه.. ويفترض أن يكون اللقاء سريا.. وبعدما عدت للقاهرة، هاتفني أحد أقربائي من الذين كانوا يعملون في أحد الأجهزة، وقال ضاحكا: «بطل تقعد قعدات مع بتوع البعث.. ثم حكى لي تفاصيل الجلسة التي تمت مع الأحمر!

والشيء بالشيء يذكر، وبمناسبة حكايات القناع الصارم إياه، خاصة من قيادات البعث، فقد كنت في زيارة لبغداد قبيل سقوط النظام، وكانت تلك هي الزيارة الثانية طيلة تاريخي السياسي الذي رفضت فيه كل دعوات الزيارة، وكان رئيس الجهة التي تستضيف المشاركين في مؤتمر عن البرلمانات العربية هو الشاعر العراقي «حميد سعيد»، الذي كان متجهما طوال الوقت، وما إن ينادي أحد مساعديه حتى يقفز المنادى واقفا مذعورا، رغم أن بعضهم كان يحمل درجة الدكتوراه في الأدب أو في العلوم السياسية.. وحان أذان العصر وانعقدت الصلاة، وبالصدفة كان يصلي إلى جواري أحد كبار مساعدي حميد سعيد.. ولما انتهت الصلاة، وختمناها وانصرفنا إلى صالون انتظارا للشاي، أردت أن أخفف وطأة التوتر والتجهم، فوجهت كلامي للرأس الكبيرة: «هل تصدق أنني سمعت الدكتور فلان وهو يقرأ التحيات يقول إنك حميد سعيد بدلا من إنك حميد مجيد»! وانفجر الحضور ضحكا، إلا الأستاذ الشاعر حميد!

ذلك نزر يسير من ذكريات شامية بغدادية عشتها مع البعث هنا وهناك، ومنها أتجه إلى محنة دمشق بوجه خاص، ومعها حلب بوجه أكثر خصوصية، لأن الأخيرة كانت معقل الوحدويين السوريين الذين رفضوا الانفصال عام 1961، وقرروا المقاومة إلى آخر نفس، وبقيت حلب عروبية حتى نفسها المنهك، ولن أقول الأخير حاشا لله!

ففي تقرير نشرته «الحياة اللندنية» بعددها الصادر 15 مارس إشارة إلى أن الخسارة التي لحقت بسوريا بعد حرب استمرت أربع سنوات وصلت إلى 1.3 تريليون دولار، يعني 1300 مليار دولار، يعني رقما يصعب على أمثالنا ضربه وقسمته حتى لو بالآلة الحاسبة، علما بأن الناتج المحلي كان نحو 60 مليار دولار قبل 2011. ثم إن الأمم المتحدة تقدر عدد ضحايا الحرب بربع مليون شهيد أو قتيل، وقدرهم المركز السوري لأبحاث السياسات بنحو 470 ألفاً، ناهيك عن نحو 11 مليون مهاجر ونازح في الخارج والداخل.

وبعيدا عن الأرقام، وهي فادحة بكل المعايير، ثم بعيدا عن زاوية النظر لنشأة الصراع ومساره وتقييم أطرافه، ليس لأنها أمور غير مهمة، لكن لأن سياق ما أكتب عنه لا يتحملها، فإن الانهيار الذي لحق بالجوانب الحضارية والثقافية والروحية في سوريا الحبيبة لا يمكن تقديره لا بالمال ولا بأي شيء آخر.

ولا أدري هل ستستعيد دمشق ألفها الروحي بسيدي محيي الدين وبقية أهل الفضل من مشايخه وأقرانه وتلاميذه.. وهل ستعود فرق الإنشاد الديني الصوفي الرائعة للتغريد بالمدائح والقصائد العذبة التي تجعل المرء يتمايل جسدا ويحلق روحا.. وهل ستستعيد حلب توهجها القومي العروبي والشطارة الاقتصادية.. وهل.. وهل؟!

ستذهب أطراف الصراع إلى مصائرها المحتومة، وسيبقى أهلنا في سوريا الحبيبة يحاولون الحياة مجددا كطائر الفونيق!



نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 17 مارس 2016

No comments:

Post a Comment