Thursday 24 March 2016

اعتذار لعلي مبروك


د. علي مبروك

مدين باعتذار مضاعف لعلي مبروك المواطن المصري، وأستاذ الفلسفة، والمثقف طويل الباع في غير مجال، والوطني الواعي الجسور والإنسان الذي بقي طوال الوقت يحقق إنسانيته!

سعيت للتعرف عليه بعد أن قرأت مقالاته في الأهرام وفي الصفحة واليوم ذاتيهما اللذين كان مقالي ينشر بهما، وبعد أن قرأت وفهمت أحد كتبه، وما أن التقيته كانت الحواجز كلها متلاشية، لأن سحنتنا الريفية متشابهة، ونزوعنا الذهني والروحي يحمل الجينات نفسها، ولم أستح أن أعلن له وللحضور من الأصدقاء المشتركين أنني أتعلم منه، وأحيانا يستعصي على مداركي استيعاب بعض عباراته فأعيد قراءتها أكثر من مرة، وحاول هو من جانبه أن يثني على ما أكتب وأنطق في التلفزيون، ثم كان أن بثثنا بعضنا البعض آلامنا، وكانت آلامه هو مضاعفة، حيث الحصار والحرب اللذين لا أتعرض لهما مثله!

أعتذر للمواطن المصري علي مبروك، لأن كل ما بذلته مع آخرين من جهد لتتحقق دولة المواطنة التي يجد فيها مواطنها حقوقه في الحياة الحرة الكريمة كان جهدا متواضعا مقطوع الأنفاس، لأننا تركنا الحلم بدولة جمهورية تذوب فيها الفوارق بين الطبقات وتهدف للحرية والاشتراكية والوحدة وتشق طريقا ثالثا مع إصرار العالم الثالث، وتسود فيها الكفاية والعدل وتكافؤ الفرص تركناه يتبدد وقبلنا أن نعيش رغم كل استنكارنا ورفضنا وكفاحنا أرقاما ورعايا درجة عاشرة وشاهدنا وعايشنا بلدنا وهو يعرض في سوق النخاسة الإقليمي والدولي ولم يفلتنا النخاسون ضمن صفقاتهم.

ولذا لم يجد علي مبروك حقا واحدا من حقوق المواطنة، رغم علمه ودرجته العلمية ورغم ثقافته ونزاهته وعفة لسانه وطهارة يده!

وأعتذر لعلي مبروك أستاذ الفلسفة لأنني مع غيري ممن شاءت الصدفة أن يحوزوا مساحات في أكثر من صحيفة ويحتلوا سويعات في أكثر من شاشة، ويوجدوا في غير محفل من محافل الحضور العام لم نسع لمناقشة الأوضاع المخجلة في الجامعات المصرية وفي مقدمتها الجامعة الأم، جامعة القاهرة، ولم نهتم بكشف تواطؤ وتدني بعض الذين شاءت الصدفة البيولوجية أن تتقدم أعمارهم وأن تتبرز أذهانهم ليتبوأوا مواقع التحكم في الحياة الأكاديمية، فطفقوا يحاصرون الأكفاء ويصادرون الاجتهاد والتفوق، ويقتلون الآخر الذي لا يطيقون مجرد وجوده، وساهمنا في الترويج لبعض أولئك النصابين الذين ادعوا أنهم المجددون للتراث والقيمون على العقل والمستبصرون بصحيح العقيدة الحاملون لصحيح الفهم الديني، فيما هم على الحقيقة كما ثبت بعد ذلك وخاصة في موقفهم من علي مبروك ومن قبله نصر حامد أبو زيد مجرد آلات بدائية لإعادة تعبئة وتغليف ما سبق إنتاجه واستهلاكه وهضمه وإخراجه!!

ومدين أنا بالاعتذار لعلي مبروك المثقف والوطني والإنسان، لأنني مع آخرين لم نستكمل ولو مرة واحدة عشرات المحاولات والتجارب لبناء حوائط الصد الثقافية والحضارية لمواجهة تتار العصر المتخلفين في كل مجال، سواء الذين زعموا القوامة لأنفسهم على ديننا وعلاقتنا بإلهنا جل وعلا أو الذين ارتدوا مسوح العلم والعلمانية والليبرالية وحرية البحث العلمي ولفوا رؤوسهم بعمائم التنوير والتحديث والتقدم فيما الحقيقة أنهم أخطر وبما لا يقاس من الإخوان ومن السلفيين ومن لصوص المال العام ومن على غرارهم، ولذا لم يترددوا في الفتك بعلي مبروك ولم يوفروا أي جهد لوأد مشروعه العلمي والفلسفي، فاغتالوا شخصيته وحرموه إنسانيته وحاولوا عبثا دفعه للكفر بوطنه ووطنيته وفي كل ذلك لم يفلحوا.. ولكنه كان وحيدا!

اقتربنا إنسانيا، علي مبروك وكاتب هذه السطور، وحاولت فتح باب لنشر مقالاته الممنوعة في خارج مصر، وكنا نلتقي لنجلس لنناقش جملة واحدة في سطر حتى نجد بديلا للفظ هنا أو هناك إذا تركناه فربما يمنع نشر المقال.. وكان هو حريصا على التنفس بالنشر، إلى أن حدث انقطاع غير مقصود ولا متوقع إثر معاناتي من مرض الظهر، ولذا لم أعرف لحظة أنه يعاني أشد مما أعانيه!

عانى صديقي الذي أبكيه وأعتذر له من الكبد، لأن الأوغاد صغار النفوس منحطي الهمم حاصروه وحاربوه بخسة منقطعة النظير، وبالقطع فإن جهازه المناعي تأثر بالإنهاك الذي لحق بذهنه وأعصابه وهو يدبر التزاماته بتعليم أولاده ونفقات أسرته وما يلزمه هو من مصادر ومراجع، ولم تكن القروش التي يتقاضاها من عمله الجامعي كافية بحال من الأحوال، خاصة بعد أن دهمه المرض.. ولذا ليتني ما مرضت وليتني ما انقطعت عن تدبير ذلك المتنفس الخارجي لنشر مقالاته!

لقد رحل علي مبروك مغتالا اغتيالا معنويا مثلما جرى مع نصر أبو زيد، ولو كان علي وهو العالم الفيلسوف مربي الأجيال ممن يسودون الصفحات بالبذاءة وقلة الأدب أو بالتفاهة والرداءة، ثم يسمي ذلك رواية وقصة وقصيدة، لوجد من يدفع عنه استبداد الأوغاد في الجامعة ووجد من يثير الزوابع ويعقد المؤتمرات ويقود الوقفات الاحتجاجية.. أو لوجد مكانا على موائد الحكام ضمن الذين يذهبون للكلام في مصائر الوطن.

رحمة الله عليك أخي وبركاته وسامحني فيما أنا مدين لك به.


 نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 24 مارس 2016

No comments:

Post a Comment