Thursday 10 March 2016

المأزق الحاد




كان تكتيك الحركة الصهيونية ومازال وسيظل هو قولبة الصراع العربي – الصهيوني في قالب ديني "إسلامي – يهودي"، رغم أنها حركة علمانية سعت لتوظيف الأسطورة الدينية في خدمة أهدافها التي لم تنفصل لحظة عن الاستعمار بمراحله المختلفة، بل إنها هي ذاتها أحد النماذج الفجة للاستعمار الاستيطاني العنصري. ولذلك لم تكن مصادفة بحال من الأحوال أن يسعى الاستعمار البريطاني في مرحلة ازدهاره وأوج سيطرته إلى تخليق حركات إسلامية تجنح لما درج على تسميته بالأصولية – وهي غير أصول الدين وأصول الفقه – لتتواكب مع تصاعد الوجود اليهودي الصهيوني في فلسطين، وكانت حركة الإخوان المسلمين ثم حزب التحرير الإسلامي وبعدهما أو ملحقا بهما حركة حماس النموذج لما أذهب إليه.
عن نفسي أجد أن الذين انحازوا لقضية فلسطين واعتبروها بوعي وصدق واعتقاد قضية التحرر الوطني العربي والعالمي الأولى، عدا عن أنها بالنسبة للوطنيين المصريين قضية أمن قومي مصري بحت- أجدنا- في مأزق شديد الوطأة، ولا بد من إعمال العقول وبذل الجهود بغير هوادة لمواجهته ورسم طريق أو درب أو خيط الخروج منه!

أقول هذا الكلام بعد أن توفرت لدى أجهزة الأمن المصرية الدلائل القائمة على اعترافات المتهمين في قضية مصرع الشهيد المستشار هشام بركات النائب العام المصري، وتشير إلى ضلوع حركة حماس في العملية بالتدريب والتسليح والتوجيه ورسم خطط مستقبلية مماثلة.

ولقد كنا ننتظر من مسؤولي حماس أن يرجئوا نفيهم الذي قالوا إنه قاطع، إلى مرحلة تالية وأن يعلنوا بدلا عنه أنهم بصدد فحص الوقائع والأسماء واستجواب من قد تلحق به شبهات التورط بعيدا أو من وراء ظهر قيادات الحركة، كهنية والزهار وأبو مرزوق وغيرهم، لأن الأمور وخاصة في الحركات المسلحة لا تعدم وجود من قد يتصرف "من رأسه" في لحظة انفعال أو حتى جهلا، وربما خيانة لتوريط الكيان كله فيما يساعد في القضاء عليه، وبعد أن يأخذ تحقيق حماس وتمحيصها الأمر وقته اللازم تعلن عن النتيجة ولا تتردد في كشف الخطأ والمخطئين إن كانوا موجودين.

وفي هذا السياق وللتدليل على ما أذهب إليه عن جنوح بعض العناصر في الحركات المسلحة إلى سلوك شخصي، فإنني أذكر ما تعرضت له عام 1983 فيما كنت أعمل صحفيا في جريدة "الخليج" الإماراتية وأكتب عمودا يوميا، وذات يوم كتبت عما أسميته "قنابل أبي إياد الدخانية" وللتذكير فقد كان صلاح خلف "أبو إياد" في مقدمة قيادات حركة فتح ومنظمة التحرير، وكان مسؤولا عن الأمن الموحد وضالعا في عمليات تصفية جسدية، وعمليات أخرى بغير حصر، وكنت أعرفه معرفة شخصية وثيقة ومعه هايل عبد الحميد "أبو الهول" وفاروق قدومي "أبو اللطف" فيما كانت معرفتي محدودة نسبيا بخليل الوزير "أبو جهاد".. وفي المقال انتقدت تصريحات لصلاح خلف وكان الانتقاد حادا بعض الشيء. وفي صباح يوم نشر المقال تلقيت اتصالا هاتفيا بدأ بسؤال عن اسمي للتأكد من أنني أنا، ولما تم التأكد انفتح مجرور شتائم ختمت بتهديد واضح وصريح "والله يا أخو.... لأضربك بالرصاص.. ولو أنك ما بتساوي فشكة"!! ولما سألته عمّن هو رد بالحرف: "أنا سيدك وسيد مصر تبعك كلها راسم الغول"!!

كان راسم الغول من المقربين من حرس عرفات ومن الذين احترفوا القتل، وكنت آنذاك متهما من قبل كثير من المصريين المقيمين بالإمارات بأنني عميل للفلسطينيين وعدو لوطني لأن كتاباتي ومواقفي كانا منحازين بلا حدود ومهما كانت الظروف أو أخطاء بعض الفلسطينيين تجاه العاملين معهم من المصريين للقضية الفلسطينية وللشعب الفلسطيني، فيما كنت معارضا شرسا للسادات وسياساته وسياسات من جاء بعده!.. وعزت علىّ نفسي وبادرت بالاتصال بسفير فلسطين في أبو ظبي الذي بادر بالاعتذار وبادر بإرسال الصديق الأستاذ راجح الطل لتطييب خاطري.. ثم اتصل الغول ودار حوار طريف للغاية.. حيث يحاول القاتل أن يبرر للقتيل محاولة قتله!

هناك إذن جنوح من بعض الذين ينتسبون للحركات المسلحة عموما، فما البال إذا كان اللعب بالعقيدة الدينية عاملا أساسيا في تكوين الظاهرة واستمرارها ومصدرا للتجنيد وللتربح ولكل ما فيها من عوار!
نحن في مأزق تجاه ما حدث ويحدث وسيحدث للوعي المصري والعربي في الشارع الجماهيري بوجه عام، عندما ستجد أبواق التطبيع مع العدو الصهيوني، ودوائر المصالح المرتبطة بالدولة العبرية وبالرأسمالية العالمية الفرصة الثمينة غير المتكررة لشن هجومها الضاري على أي التزام مصري أو عربي أو حتى دولي وإنساني تجاه قضية فلسطين باعتبارها قضية تحرر وطني من طراز فريد وقضية استبداد استعماري استيطاني عنصري دموي بشعب بأكمله!

إن مسؤولية قادة حماس وكل الذين يوظفون الانتماء للعقيدة الدينية لخدمة بقائهم جاثمين على صدر وطن ومصادرين لانطلاقه الإنساني التحرري عن شحن بعض الشباب المصري والشباب الفلسطيني ضد الدولة المصرية بترابها وشعبها ونظامها السياسي هي مسؤولية مباشرة، لا تقل عن مسؤوليتهم عن حفر أنفاق التخريب الاقتصادي والتخريب الأمني للوصول إلى عمق مصر وضربها من داخلها ودفع العشرات وربما المئات من أبنائها في سيناء وغير سيناء لربط مصالحهم واستمرار معايشهم بتك الأنفاق ومن هم وراءها.. وبعيدا عن التساؤل المشروع حول ما تردد عن تكلفة الأنفاق المحصنة بالخرسانة والحديد والتي قد تصل إلى مئات ملايين الدولارات للنفق الواحد، وما إذا كان الأجدى هو وضع هذه الأموال في خطط حل مشاكل أهل غزة، إلا أن المرء يقف ممزقا أمام المعادلة شديدة الصعوبة: بعض أبناء فلسطين يضلعون في تدمير الأمن القومي المصري اقتصاديا وأمنيا ومعنويا وبدأب غير مسبوق.. وقيادات في منظمة يفترض أنها منظمة مقاومة ضد الوجود الصهيوني ومن أجل تحرير فلسطيني، يغضون الطرف عن الانحراف المنهجي في أطروحات حركتهم السياسية والتعبوية وشعب يكاد يهلك جوعا وعريا وبطالة، ثم حقيقة أن فلسطين هي بوابة مصر المباشرة والأخيرة لأمنها الوطني ولابد لكل مصري عاقل وفاهم أن يدرك هذه الحقيقة ولا يتخلى عنها!!

تلك هي المعادلة التي يزيد من صعوبتها، كما أسلفت، المعسكر الآخر المنحاز للدولة العبرية والصهيونية ومعادٍ إلى أقصى حد للعروبة وللتحرر!

أتمنى أن نجد سبيلا للخروج من المأزق، وأتمني أن تبحث حركة حماس عن مارقين وجانحين ومنحرفين في صفوفها، وأن تعيد النظر في أطروحاتها التي تستهين بأمن مصر في سبيل خدمة حركة الإخوان المسلمين الإرهابية.


 نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 10 مارس 2016

No comments:

Post a Comment