Thursday 31 March 2016

لا عزاء للمشاركين في الجريمة


جامعة القاهرة

أتمنى أن يكون الأمر مختلفا عما احتواه مضمون بيت الشعر القائل:
لقد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي

ذلك أنني أشك كثيرا في أن يستجيب المسؤولون عن التعليم العالي والجامعات ومعهم الذين شاءت الظروف أن يتصدروا الصفوف أساتذة ورؤساء أقسام وعمداء، وكذلك رؤساء وأعضاء لجان الترقية لدرجتي أستاذ مساعد وأستاذ ومن قبلهم أولئك الذين يشرفون ويشاركون في مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه، لما كان وأصبح وأضحى وأمسى أمراضا متوطنة في الجسد الجامعي وفي الروح الأكاديمية وتقاليدها العريقة التي سبق وأرساها في مصر رواد أفذاذ عرفوا أنفسهم فعرفوا قيمة العلم والعلماء وأيضا الطلاب.

لقد تلقيت على بريدي الإلكتروني وأيضا على صفحتي للتواصل الاجتماعي عشرات التعليقات ومئات الموافقات أو الاستحسانات على مقال الأسبوع الفائت الذي قدمت فيه اعتذارا للصديق العزيز الراحل الدكتور علي مبروك، وضمنته بعض الأنين الذي يعانيه المواطن المصري جراء إهدار مواطنته، ويكابده أستاذ الجامعة جراء استبداد وجبروت المتحكمين بسطوة المنصب وحده في الحياة العلمية بالجامعات المصرية، ومن محصلة ما تلقيته أعتقد أنه يتعين فتح ملفات تلك الحياة بمحوريها الرأسي الذي ينتظم فيه المعيدون والمدرسون المساعدون والمدرسون والأساتذة المساعدون والأساتذة، والأفقي الذي يصل بين هؤلاء وبين طلابهم وإدارة المؤسسات التعليمية وأيضا المجتمع ككل، وهي ملفات تضم ما قد يندى له جبين أي حر يدرك واجباته تجاه نفسه ووطنه وعلمه، لأن الحقوق عند التمسك بها والدفاع عنها تصبح من صميم الواجبات.

وقبل أن أستطرد فإنني أود أن أناشد الأستاذ الدكتور حسام عيسى العالم الجليل والمثقف الوطني المهموم بحاضر وطنه ومستقبله، ليخرج على الأمة موضحا ومفصلا واقع الحياة الجامعية والعلمية وحجم وعمق ما فيها من مشاكل مأساوية قد يصل بعضها لحد المخازي، لأن الرجل كان ولفترة ما مسؤولا عن هذا الأمر وأظنه قد عانى الأمرين، رغم أنه لم يكن وزيرا وفقط بل كان نائبا لرئيس الوزراء.

وفي ظني فإن أول الخيط هو الدمار الذي لحق بمنظومة الضوابط العملية والأخلاقية التي يجب أن تحكم الحياة الجامعية، بحيث انصرفت معاني الكلمات ومدلولات المصطلحات إلى عكس ما انصرفت إليه عند نشأتها وخلال مسارها. فالدرجة العلمية مثلا كالماجستير والدكتوراه لم تعد هي محصلة الجهد الذي يبذله الباحث في اختيار موضوع بحثه وجمع مادته، حسب الفرع الذي يبحث فيه، ثم إعماله لأدوات المنهج ومعايير البحث وصولا للصياغة واكتمال البحث، وإنما أصبحت في غالب الأحيان محصلة لطبيعة العلاقة بين الباحث وبين المشرف، وأيضا أعضاء لجنة المناقشة بل أيضا العلاقة مع أمين المكتبة في حالة البحوث النظرية أو مسؤول المعمل في البحوث الأخرى.. ويمكن ببساطة التغاضي عن الأصول البحثية المستقرة وعن مدى قدرة الطالب على البحث والإبداع وامتلاكه للمهارات الذاتية المناسبة، إذا كان تلميذا لفلان أو علان أو استطاع أن يصل لطريق أكثر اختصارا.

وإن كان أكثر كلفة أخلاقية ومادية حتى وإن كانت الكلفة هي فتافيت كرامته الإنسانية، وكان لذلك آثاره المباشرة على التكوين العلمي لمن يحصلون على الدرجة، ومن ثم على مسيرتهم الطويلة فتجدهم أساتذة كاملي الأستاذية من حيث المدى الزمني وعدد البحوث المطلوبة وموافقة اللجنة، ولكنهم بلا أستاذية من حيث قدراتهم ابتداء من العجز عن نطق جملة عربية سليمة أو كتابة سطر بدون أخطاء إملائية ونحوية أو نطقه بدون أخطاء صرفية، وليس انتهاء بالعجز عن إضافة أي جديد لفرع التخصص.

ثم كان لذلك أيضا آثاره المدمرة على المدى الطويل، إذ صارت روح الانتقام هي السائدة، فبمجرد ما أن يصل أحدهم لسن المعاش ويمسى أستاذا متفرغا فاقدا لحوله وقوته وصولته التي كانت، فإنه يتعرض للتنكيل ممن عانوا تحكمه ونقائصه من قبل!

ثم إن أمورا فادحة كالسرقات العلمية التي تحمل اسما للتدليل أي "الدلع" هو الاقتباسات، وكاللهاث وراء الانتدابات خارج الجامعة في وزارات ومصالح الحكومة، ووراء الإعارات والسفريات، ثم وراء العمل في الملحقيات والمستشاريات الثقافية بالسفارات المصرية بدول العالم وحسب مستوى الدولة، أصبحت مسلمات بديهية لا أحد يناقشها أو يتصدى لها لوضعها في نصابها الصحيح!

أعلم أنه سيقال إن أساتذة الجامعة معذرون لأن مرتباتهم ومداخيلهم لا تكفي نفقات معيشتهم وأسرهم وإنفاقهم على اقتناء المراجع ومتابعة الإنتاج العلمي الأكثر تقدما في جامعات الدول المتقدمة، وسيقال إن ذلك هو النتيجة الحتمية لمجانية التعليم إلى آخر المعزوفة التي أضحت باطلا يراد به الحق، لأن الفرص التي أتيحت بزيادة مرتبات هيئة التدريس في الجامعات الحكومية، وأتيحت بوجود العديد من الجامعات الخاصة بمصروفات فادحة من الطلاب، وكذلك ما أتاحته ثورة الاتصالات والمعلومات وهي هائلة بكل المعايير تمكن المرء وهو جالس يحتسي قهوة صباحه من أن يطلع على ما لا حصر له من المصادر والمراجع والدوريات العلمية، هي فرص لم تكن موجودة من قبل وبالتالي فلا مجال لتلك الأسطوانة المشروخة!

لقد تقاعست الجامعة عن دورها الثقافي المجتمعي وباتت الفجوات هائلة حجما وعمقا بينها وبين مهمتها الأساسية، وهي العلم والبحث والتعليم، ثم مهمتها في بناء حاضر وطنها وإرساء معالم مستقبله.. ولا مجال لتغيير الحاضر وصوغ المستقبل إلا من أول السطر.. سطر التعليم والبحث العلمي.. ومرة أخرى رحم الله صديقي علي مبروك ورحم الشاعر الذي قال:
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء


نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 31 مارس 2016

No comments:

Post a Comment