Wednesday 10 May 2017

من وحي "وجدتها"




أتفق مع نيوتن في بعض ما يكتبه، وقد أختلف لدرجة الرفض مع ما يذهب إليه أحيانًا في تقييم حقب تاريخية وتوجهات سياسية، وبقي الود الذي لم يفسد الاختلاف قضيته، وعندما قرأت مقاله، صباح أمس الأول الاثنين، عن العدل الحقيقي توقفت أمام نصائحه لمن يبحث عمن يستطيع أن يشغل وظيفة لديه، خاصة الفقرة التي يقول فيها لا تسأل المتقدم للوظيفة عن عمره إذ "قد يؤثر ذلك في اختيارك، خصوصًا لو كان كبير السن.. هنا سنكون قد مارسنا نوعًا خطيرًا من العنصرية ضد كبار السن.. فكبار السن كما الشباب تمامًا ما زالوا على قيد الحياة"!

ومن البديهي ألا أشرح لماذا توقفت أمام هذه الفقرة، لأنني تجاوزت السبعين وكثيرًا، ورغم الحرص على الأناقة الإفرنجية، يعني البدلة الكاملة مع رباط العنق، أنادى "يا عم الحاج" أو "يا حاج"، وأنادى "اتفضل يا جدو"، وأحيانًا يتطوع من يظن أنه يفعل خيرًا بمد يد المساندة عند طلوع سلم أو نزول من سيارة!!، ولا أخفي أنني أضيق كثيرًا بلقب الحاج، رغم أنني أديت الفريضة ومعها عمرتين، مثلما أضيق إذا لم يجد الطرف الآخر لقبًا سوى "يا باشمهندز"!

وفي هذا السياق ولأن الكذب، خاصة من العواجيز، خيبة أعترف بأنني أحيانًا أحاول الاستفادة من حكاية السن، وأتجه إلى ركن العصي الذي أقتني فيه بعض أشكال العصي التي جلبتها من أماكن مختلفة، وتلقيت بعضًا منها هدايا، فأنتقي ما أتوكأ عليه عند الذهاب لمشاوير معينة، خاصة مشاوير المصالح الحكومية، والأماكن الشعبية المزدحمة، لأن ظهور عجوز يتوكأ على عصا قد يعطيه أولوية ما، وفي حالات أخرى أعلن الاعتذار "معلهش لا تؤاخذني لأني زي ما أنت شايف.. عجوز"، إذا كان المجال مجال مغالبة أو مشاكسة أو إنهاء لمشهد لا يصلح فيه النقاش، ولا المنطق بحال من الأحوال!

أما الطامة الكبرى التي تواجه كبار السن، فهي عندما تكون حضرتك على حق، وتعرضت لغبن وافتراء من أحدهم، وتحاول بشتى الوسائل المنطقية أن تدفع الغبن الواقع عليك، تارةً بالحجة والمنطق السليم، وتارةً بالرجاء والتوسل، وثالثةً بالصمت والاكتفاء بالنظر أو مط الشفايف، إلى أن تنفجر فإذا بالمعتدي المفتري يصيح في وجهك بالأسطمبة إياها متعددة الصور: "اتكل على الله أنت راجل كبير".. "أنا مش هرد عليك لأنك راجل كبير".. "والله لولا إنك كبير في السن أنا كنت وريتك".. "اقصد كريم.. بلاش هلفطة عواجيز"!.. وعندئذ يتدفق كل الإدرينالين في عروق المرء، ويود لو أطبق قبضته على زمارة رقبة المذكور، ليعرف أن السن لا تقتل الكرامة، ولا تغتال القدرة على المقاومة!

وكان صديقي العجوز كامل زهيري يسخر سخرية حادة من حكاية "صراع الأجيال"، حيث ظهرت في الثمانينيات موجة بين من كانوا آنذاك في أربعينيات عمرهم، وكانوا من قبل قادة للحركة الطلابية والتنظيمات السرية، وفي منظمة الشباب ينقمون على كبار السن، الذين بقوا متمترسين في مواقع الصدارة، السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية.. أي الصدارة بوجه عام، وكانت الصدفة آنذاك أيضًا وجود شركات توظيف الأموال التي لعبت دورًا سلبيًا في الاقتصاد المصري، وتسببت في موت كثيرين كمدًا وحسرةً وإصابة غيرهم بالشلل، وإذا بكامل زهيري يطلق مصطلح "توظيف الأجيال"، على غرار توظيف الأموال، وأذكر حوارًا حادًا بين العم كامل وبين الصديق الراحل النبيل أحمد عبدالله رزه، الذي كان أحد منظري نظرية الأجيال، لدرجة أنه اسمى المركز الذي أنشأه في عين الصيرة "مركز الجيل"، وكان الدكتور أحمد إذا قبض فكرة بجدية دافع عنها بحرارة وعصبية تنفر لها عروق رقبته ويزداد تدفق الدم لوجهه الأشقر أصلاً، فيما كان المغفور له الأستاذ كامل يناقش بهدوء، ولا يفلت الفرصة للتخفيف من سخونة الحوار بنكتة أو قفشة أو حتى بإشارات يديه الضخمة البضة! وفي ذلك الحوار ركّز كامل زهيري على شرح العلاقة بين العمر وبين القدرات الإنسانية، خاصة العقلية والوجدانية، وأن الشباب ليس فقط مرحلة عمرية، ولكنه إحساس يسكن وجدان المرء وعقله، حتى وإن كان بحكم شهادة الميلاد من كبار السن، الذين تجاوزوا الستين أو السبعين!

وأعود إلى نيوتن، الذي تكتمل الفكرة لديه وتنضج ويعبّر عنها بوضوح في أقل عدد من الكلمات، ويستطيع أن يقنع بها أحيانًا كل من تقع عينه على سطوره، وإن كان هذا لا يمنع شططه بين حين وآخر إذا اتصل الموضوع بالثروة.
                         

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 10 مايو 2017.

No comments:

Post a Comment