Wednesday 27 September 2017

عندما نهضت مفزوعًا




الجلوس أنواع.. بتنوع- لا مؤاخذة- الفرشة التي تجلس عليها، وبتعدد نوعيات المجالسين.. وقد جرّب العبد لله قعدة التراب، التي هي بدورها درجات، فهناك كوم الردمة- الردم- المتجمع عادة على رأس الغيط- بداية الحقل ومدخله- حيث يتم تقصيب الأرض بالقصابية، وهي إحدى أدوات الفلاحة المعروفة، لها صندوق مفتوح من الأمام، وذراعان طويلان يمسك بهما الفلاح، وحلقتان حديديتان على جانبيها ليربط فيهما "السلب"، أي الحبال الواصلة للبهيمة التي تشد القصابية.. ولا بد أن يكون الفلاح ماهرا ذا عين دقيقة التمييز لاختلاف ارتفاع سطح الأرض، لأنه يأخذ سنتيمترات من العالي متجهًا بها إلى الواطي لتسوية السطح، وإذا أراد الحصول على كمية من الردم، لزوم فرشها تحت أقدام مواشيه ليتحول بفعل الروث المختلط به إلى سماد بلدي شديد الخصوبة، أو لزوم تحويله إلى طوب بعد عجنه مع خلطة الروث وتبن الفول وصبه في القوالب ثم تجفيفه وتقليبه ورصه في القمائن، حيث يتم إحراقه بالفحم الحجري الذي ينتج نارا عالية، لدرجة ينصهر بها الطوب أحيانا!

وعادة ما يكون الجلوس على الردم في العصاري وراكية النار مشتعلة في الناحية الموافقة لتيار الهواء، وعندئذ نجلس فوق الريح، أي تمر علينا الريح أولا، حتى لا يزعجنا الدخان! ثم الشاي المزرود، أو كيزان الذرة المشوية! والكلام الذي تعلو نبرته حتى يسمع الجالسون بعضهم البعض، وهناك قعدة التراب الرديء.. وهو تراب السكك كالح اللون المشبع أحيانا برطوبة غير معلومة المصدر.. فهي إما بقايا الندى الصباحي، أو آثار رش مياه نظيفة تم رشها لتهدئة الغبار، وربما آثار مياه قذرة ألقيت من سطل "جردل" ينزح من حوض أو خزان للمجاري.. وربما آثار تبول حيوانات تكرر مرورها.. وهذه القعدة إما أن تكون أمام باب جمعية زراعية أو وحدة صحية أو دوار عمدة أو بالقرب من القرافة "المقابر" بانتظار موظفين أو أطباء أو خفير أو دفن المرحوم أو انتظار فراغ القائم على تلقينه ما سيقوله لحظة إنهاضه من مرقده الأخير للحساب!

ومن قعدة التراب التي جربتها بنوعيها إلى الرحرحة في فوتيهات القصور، التي هي رئاسية أو ملكية أو أميرية.. وفوتيهات الفنادق.. حيث يغوص المرء لدرجة قد لا تمكنه من وصول ذراعه ويده إلى الطاولة لتناول الشاي أو القهوة أو الحلويات والفاكهة، ولا بد أن يفز قليلا لتستقر مقعدته على طرف الفوتيه!

وقد جربتها أيضا، وارتكبت بعض الأخطاء، التي أهمها عدم الحذر من سقوط رماد السيجار أو السيجارة، وقد يكون مختلطا بجزء من النار "الزهرة" على البنطلون، وحضرتي واضعا ساقا فوق ساق، وإذا قررت أن أتجاهل فإن النار التي خرمت القماش بطبقتيه الخارجية والداخلية تلسع الجلد، وربما أماكن أشد حساسية، ليقوم المرء منطورا وكأن عقربا لسعته! وفي هذا السياق الطريف المؤلم أذكر ذلك الصباح الشتوي القارس الذي قدمت فيه من طنطا متنقلا بقطار وأوتوبيس والقدمين، ولم أفطن إلى أن الحذاء كان مزينا ببعض الطين الطري، وبالكاد وصلت في موعدي إلى منزل الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل، رحمة الله عليه.. وجلست على النوع الثالث، وهو الكرسي الأنيق الأقرب لكراسي السفرة القوية، وكان الأستاذ يفضل أن يجلس وراء مكتبه والضيف في مواجهته على الناحية المقابلة وبينهما المكتب.. ولاحظت أنه لاحظ ما يحمله حذائي ولم يعلق إلى أن حانت اللحظة.. فقد أشعلت سيجارة- لم أكن تعلمت تدخين السيجار بعد ولا كان عندي إمكانية لذلك- ولاحظ هو أنني لا ألقي رماد احتراقها في المنفضة "الطفاية" الكريستالية الموجودة على المكتب، وبحسم سألني: أنت بترمي حاجة على السجادة؟! وأجبت من فوري: لا أبدا. واستطردت: وحتى لو وقع شيء فهو رماد! واستمر في حسمه: أنت عارف السجادة دي إيه؟! وأجبت بطريقتي التي أحيانا ما تكون رذلة: شكلها أقرب إلى الكليم القديم الذي كانت أمي تضعه تحت أقدام دجاجها في الشتاء! وعندها لم يحتمل الأستاذ، أو لم يطق صبرا مثلما جرى بين العبد الصالح وبين موسى، وطفق- أي انطلق- شارحا للسجادة، نوعها وعمرها وقيمتها.. ثم أضاف: مش كفاية طين جزمتك!

كانت القعدة قد انتقلت بعد ذلك لمفارقة أشد إضحاكا، إذ دعاني للخروج من الحجرة إلى الشرفة المتصلة بها، لأن الكلام كان قد وصل لمحتوى فيه خصوصية سياسية.. وأشار لي بدخول الشرفة، وعلى أول فوتيه ألقيت نفسي ثم قمت منتفضا مذعورا، وهو يضحك.. ويقول بصوت آمر: بس يا بركة!

وتبين أنني لم ألتفت إلى أن الفوتيه تنام عليه كلبة من نوع لا أعرفه، وكانت ترتدي "جاكتا" ربما من الشمواه، يلتف حول ظهرها لحمايتها من البرد.. ولما جلست فوقها ذعرت وعوت وقاومت، وقال الأستاذ: لا تخف دي.. بركة! وبحكم النشأة والتكوين قلت: يا بختها.. لابسة لبس عمري ما هلبس زيه!

ثم إن هناك قعدة "البرش" الذي هو فراش السجن المجدول من حبال الليف الأحمر الخشنة.. والشاي يتم تجهيزه على الـ "تو.. تو"- تاء مفتوحة وواو ساكنة- وهناك قعدة الحصيرة التي قد تكون صغيرة للصلاة.. أو كبيرة لملء أرضية الحجرة، فإذا صارت أكبر مساحة صار اسمها "قياس" أطرافها ملونة بأشكال من خيال "الحصري" صانع الحصر.. إما على شكل مثلثات متجاورة، أو رسوم فيها جمال- إبل- وزروع! وإذا كانت الحصيرة مستطيلة لا يتجاوز عرضها مترًا وطولها حوالي مترين ونصف المتر فهي "شُقة" بضم الشين، وهي لزوم الفرش على المصطبة أو على الدكة أو على الكنبة البلدي!

وأنا واثق أن من جربوا هذه الأنواع من القعدات يعرفون أن لكل منها طبيعته وأطرافه.. من فلاحين.. وأجراء.. وصنايعية وشبه متعلمين.. ومتعلمين.. ومرضى.. وبهوات وباشوات ووزراء وأيضا حكام.. ناهيك عن أن لكل قعدة آدابها إذا جاز الاستخدام، إذ عليك أن تجيد أولا تربيع ساقيك والاستقرار عليهما متحملا بعض الصعوبة حتى لا يبدو أنك متضرر أو مستكبر.. هذا على التراب والحصير والأبراش.. وعليك أن تعرف أن تنتظر حتى يشار إليك بالمكان المناسب لجلوسك، لأن هناك كبارا لهم مكان مخصص قد يكون مناسبا أمنيًا أو أقرب للهواتف أو للباب لتسهيل مهمة من سيدخل ليهمس.. وكثيرا ما يكون الجلوس حسب الأهمية، فهناك من يجلس على يمين الكبير أو على يساره، ولذلك أراحوا واستراحوا عندما يضعون بطاقة بالاسم أمام كل كرسي!

طيب لماذا كل هذا الحديث عن الجلوس وأنواعه ودرجاته؟! الحقيقة أنني أردت أن أصل لذلك الذي كان جالسا وممددا ساقيه وظهره مستند لعامود ودخل عليه الوالي فلم يعتدل واستمر في درسه.. واغتاظ صاحبنا وأراد أن يرد اعتبار نفسه، فأرسل من يحمل صرة المال إلى الرجل، فإذا به يقول له: عُد إلى سيدك وأبلغه أن من يمد رجليه لا يمد يديه! واقعد يا مصري ومدد رجليك إذا كان قانونك هو الاستغناء بالعمل والكرامة.. مع الاعتذار للصديق الدكتور محمد أبو الغار.
                           

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 27 سبتمبر 2017.

No comments:

Post a Comment