Thursday 16 June 2016

فاصل عن الخطاب الثقافي




أؤجل للأسبوع المقبل استكمال ما بدأته حول ما أسميه الأفعى السلفية التي تفرخ العناصر الإرهابية التي تسمي نفسها جهادية، وهو ما ظهر جليا في اعترافات المتهمين الذين قبض عليهم في جريمة مذبحة رجال الشرطة بحلوان، حيث قال المتهمون إنهم بدأوا بالانضمام للفكر السلفي ومنه إلى ما أسموه الفكر الجهادي، وما سأستكمله هو نشر بعض التعليقات التي وردتني حول القضية، وفيها تعليقات أراها إضافة مهمة لما كتبته، وتكشف عن وعي وإدراك عميقين بأبعاد الموضوع، كما أنني سأشير إشارة وافية إلى ما تطبقه دولة الإمارات العربية المتحدة من قوانين تتصل بمسألة التمييز بكل أشكاله ومضامينه، وأيضا بما يتصل بتكفير الآخرين، وقد تفضل الصديق الأستاذ غسان طهبوب الصحفي والمفكر العربي مشكورا بإطلاعي على القانون الإماراتي في هذا الصدد، وما أود أن أتحدث فيه اليوم هو الجدل المثار حول الخطاب الثقافي وتجديده وهو الخطاب الذي أرى أنه الأصل المتفرع عنه بقية الخطابات من دعوية وسياسية واجتماعية، لأن الثقافة بمعناها الواسع، تتجاوز الآداب والفنون إلى كل مناحي الحياة، ولا أظن أن تجديدا يحدث في الخطاب الثقافي ما لم نناقش المدى الذي نطبق فيه عبارة "فاقد الشيء لا يعطيه" على القائمين على الشأن الثقافي في هذا الوطن!

ومن الطبيعي أن يتجه النظر إلى وزارة الثقافة وهيئاتها بمجرد أن نقول "القائمين على الشأن الثقافي" وهذا صحيح، غير أن صحته لا تنفي أنه جزئي لا يستوفي المقصود بالشأن الثقافي، ومن هنا فإن جهات أخرى تضاف إلى الوزارة وهيئاتها ليكتمل الحديث عن المسؤولية ومن هذه الجهات كل تكوينات ما يسمى بالمجتمع المدني من أحزاب وجمعيات ونقابات ونواد، وأيضا التجمعات الخاصة التي يلتقي فيها أشخاص يجمعهم رابط ما للحديث في الشأن العام، مثل الصالونات التي أضحت نمطا ـ ولا أقول "مودة"ـ اجتماعيا يسعى للانخراط فيه وجهاء المجتمع ويتباهون بمن يستضيفونهم بشكل دوري!، وهنا قد يقول قائل: "لقد وسعتها وإذا اتسع النطاق تاهت المسؤولية"، وأقول إن القضية عندي هي قضية النهوض الشامل في المجتمع، أي السعي لتحقيق ما سبق وأن حققته أمم ومجتمعات أخرى عبر الزمن، وحاولنا نحن تحقيقه في حقب معينة، بحيث تتحرك القوى الاجتماعية الحية التي أثبتت أنها موجودة وقادرة على الحركة، مثلما جرى في يناير وفي يونيو وما بينهما، بل وما قبلهما على الأقل منذ 1972 باتجاه نهضة مجتمعية شاملة متجذرة في الوجود المصري من "ساسه لراسه" كما يقولون، أي من أساسه لرأسه.

عندئذ نسأل عمّن الذي يقود هذه "الأوركسترا" النهضوية الشاملة، وينسق بين الجهات التي ذكرتها، والإجابة عندي وبالقطع، ليست وزارة الثقافة التي أزعم أنني أعلم شيئا عنها من رأسها، أي السيد الوزير الذي التقيته وعرفته وربما عجنته وخبزته منذ كان محررا في مجلة نوعية يسعى للانتقال إلى أخرى أكثر شهرة وانتشارا، إلى "ساسها"، أي دهاليزها التي يتحكم فيها محترفون يجيدون وبسهولة تامة الجمع بين رطانة المثقفين وبين عفانة البيروقراطيين والمستفيدين!، وأتمنى لو تحلى أحد ما بالشجاعة الكافية لفتح ملفات وزارة الثقافة في مصر ورصد ما فيها من إنجازات وإيجابيات، وأيضا ما بها من عوار وتقصير وسلبيات، وصولا لرسم سبل المساهمة في ذلك النهوض الشامل.

إنني أذهب إلى أن الأمر يبدأ من تهيئة الأمة لتشيع فيها روح السعي للنهوض الشامل، فنعرف أن لنا هدفا محددا واضحا نسعى كلنا بتنوعاتنا واختلافاتنا والتقاءاتنا لتحقيقه.. وعلى سبيل المثال فإن مجتمع الدولة العبرية "إسرائيل"، يعرف أن هدفه الواضح هو "إسرائيل القوية المتقدمة المتفوقة على كل جيرانها مجتمعين".. والكل يسعى لذلك حتى إن بدا الاختلاف والصدام لدرجة الكراهية بين بعض مكونات ذلك المجتمع!، فالكل هناك يصبح في واحد عندما يتصل الأمر بالدولة وقوتها وتقدمها.

ولقد سبق وأغلق بعض كبار مثقفينا أبواب مكاتبهم واستجمعوا كل قوتهم وطاقاتهم الذهنية والمعرفية، وخرج كل واحد منهم بمشروع مكتوب للنهوض الثقافي، أي أنه استطاع تشخيص الداء وسعى لكتابة وصفة الدواء ومعها كل التفاصيل التي يجب مراعاتها للتعافي الثقافي.. ومع ذلك لم يفلح الأمر والسبب عندي بسيط جدا، وهو أنه مهما كان الطبيب حكيما نطاسيا مطلعا على كل ما هو أكثر حداثة في مجاله، فإنه لن يستطيع تحقيق شفاء مريضه ما لم يكن الأخير مستعدا وفي بيئة تساعده على تحقيق استعداده للشفاء، وفي مسارنا الوطني لم تكن هناك "وصفة ثقافية" محددة مضى عليها ثروت عكاشة مثلا في وزارة الثقافة، لكن كانت هناك روح النهوض السارية في مفاصل وخلايا المجتمع، حيث الفواعلية والفنيون والمهندسون يستجيبون لتحدي الطبيعة ويسعون ليل نهار لبناء السد العالي، وغيرهم في الحديد والصلب، والمراجل البخارية، وهلم جرا إلى الوحدات المجمعة والساحات الشعبية وقصور الثقافة وغيرها، الأمر الذي جعل جاهين يكتب حالما بتماثيل رخام على الترعة، والطويل والموجي وعلي إسماعيل وعبد الحليم والبقية يلحنون ويغنون.. أيا كان الرأي فيما جرى آنذاك، وهل كانت محصلته هي الهزيمة الفادحة في 1967 أم أنها كانت للقضاء عليه، إلا أن فكرة الروح السارية هي الأساس مثلما تجلت في حلقتها الأولى الأساسية عقب ثورة 1919 فلم تكن وصفة مكتوبة هي التي ألهمت مختار ولا بقية الرواد في الرواية والشعر والبحث العلمي، بل وفي الاندفاع نحو أفكار التجدد بشقيه الليبرالي والماركسي ومن بعدهما القومي، بل الاندفاع نحو مناقشة ما قد ترسخ أنه مسلمات تراثية كالخلافة وغيرها، وإنما كان الأمر روحا سارية في مفاصل الأمة وخلاياها!

إن هناك العديد من النماذج التي أثبتت أن تلك الروح النهضوية عندما تسري فإنها تحقق أول ما تحقق ما أسميه السلوك النهضوي.. يعني تختفي الخلافات الجانبية التافهة.. ويشتد النزوع للالتقاء والتكامل.. وتختفي الجريمة الجنائية.. ويسهر الناس على أمن بعضهم البعض، ويعنون بتنظيف الشوارع والميادين ويؤثرون غيرهم على أنفسهم في المطعم والمشرب وأيضا التدخين!!، وهذا ما تجلى في موجات سريان الروح إياها خلال ثورتي يناير ويونيو! ويبقى السؤال قائما: من الذي يحمل على عاتقه استحضار روح النهوض وكيف يمكن أن تسري في الجسد الاجتماعي؟!
                               

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 16 يونيو 2016

No comments:

Post a Comment