Wednesday 1 June 2016

من المصري اليوم.. إلى المنيا

 
لوحة شارع في القاهرة لألبرتو باسيني

لدي نقطتان في سطور اليوم، الأولى تتصل بصحيفة المصري، والثانية حول ما جرى في محافظة المنيا، وفي الأولى أشير إلى أن توافر عوامل الاستمرار للمصري اليوم كمنبر إعلامي متميز تتسع عباءته لمختلف ألوان الطيف الفكري والسياسي المصري، ويتميز أداؤه بالالتزام بالمعايير المهنية الدقيقة، ومن ثم يقوم بدوره في تكوين وتنوير الرأي العام، مهمة بالغة الصعوبة إن لم تتضافر لأدائها جهود أسرة التحرير بصحفييها وفنييها وكتابها مع الإدارة ومع رأس المال، ولذلك فمع تهنئتي للصديق الأستاذ محمد أمين على توليه رئاسة مجلس الأمناء فإنني أدعو له بالتوفيق في هذه المهمة الصعبة، التي يزيد من صعوبتها المناخ العام في مصر على كل الأصعدة، حيث تختلط العوالق والشوائب وتقل الرؤية، حتى تكاد أن تنعدم ويضيع الأفق، وبذلك تتضاعف الصعوبة، ويصبح الجميع على المحك. وفي المقدمة المهندس صلاح دياب صاحب هذه التجربة الرائدة الذي كثيرًا ما أختلف مع وجهة نظره وتوجهاته وينشب حوار ساخن لم يفسد قضية الود مرة واحدة، بل وللإنصاف فإنني أذكر ذلك الصباح - منذ شهور - الذي هاتفته فيه بنبرة شبه معاتبة وشبه متهكمة، أتساءل عن أين ادعاء الليبرالية وأين الكيل بمكيال واحد، وقد منع مقالي فيما الانتقاد والهجوم على يوليو وعبد الناصر قائمان، ولم تحتمل الصحيفة انتقادًا موجهًا لصاحبها ولرئيس تحريرها؟! وإذا بالرجل يطلب مني إغلاق الهاتف والانتظار دقائق ليعاود الاتصال، ومن بعده رئيس التحرير آنذاك ليخبرني أن المقال سينشر دون تغيير لحرف أو نقطة، وبالفعل نشر المقال يوم الخميس، رغم أنني طلبت أن يؤجل للأسبوع التالي، وكان عنوانه "كاتب ظهورات"، وكان من رئيس التحرير زميلي الصحفي، أما المهندس صاحب الدار فقد رفض المنع رفضًا قاطعًا!

وبصرف النظر عن ذلك الموقف، وعن قناعتي الشخصية المبنية على شواهد فعلية وبراهين حقيقية، تؤكد أن صلاح دياب صادق في توجهاته وممارساته لجعل "المصري اليوم" مؤسسة راسخة قوية قادرة على الاستمرار في دورها الرائد مهما كانت الظروف، وأخطرها هو غيابه لا قدر الله، فإنني أضع نفسي ضمن الدائرة التي عليها أن تساهم بكل ما تستطيع من جهد في استمرار تميز "المصري اليوم" ودوام مضيها في طريقها المؤسسي الكافل لتطورها ومواكبتها للعصر، وربما يكون جزءًا من تلك المساهمة الإجابة عن أسئلة من قبيل ما العوامل التي يمكن أن تحول دون ذلك التميز والاستمرار المؤسسي؟!

تمنياتي للصديق الكاتب المتميز الأستاذ محمد أمين بالتوفيق في مهمته.

وأنتقل للنقطة الثانية في هذا المقال، وهي تتصل بالمحنة التي تعتصر الوطن كله، وجسدها حادث قرية الكرم في محافظة المنيا، وهنا أستدعي سياقًا قديمًا ومتجددًا أراه هو حجر الزاوية فيما يجري.
فمنذ عشرين عامًا تقريبًا دعيت إلى ندوة أقامها المركز العربي للدراسات، وكان تابعًا لحزب العمل الذي كان يرأسه المهندس الراحل إبراهيم شكري، وكان يقوده فعليًا آنذاك الراحل العزيز الأستاذ عادل حسين، وكانت الندوة من حول قضية المواطنة وفيها سأتولى مناقشة عرض لكتاب عن القضية نفسها، ويقدم العرض الراحل الصديق المتميز المهندس جورج عجايبي، وكان الكتاب من إنجازات لجنة العدالة والسلام، والتي شرفت بعضويتها مع كثير من الزملاء منهم على سبيل المثال الراحل د. أحمد عبد الله رزه والأساتذة سمير مرقص ونبيل مرقص وجورج إسحق ومنير عياد وصلاح عبد المتعال وغيرهم، وكان يدير الحوار رئيس المركز الدكتور رفعت سيد أحمد، وبمجرد أن بدأت حديثي مثنيًا على الحضور ومشيدًا بالمهندس جورج عجايبي، وبالمؤمنين جميعًا الذين يؤمنون بالله، وإذا بانفجار صوتي مدوٍ في القاعة يصيح: "إنهم ليسوا مؤمنين.. إنهم كفار.. إنهم كفار"، وازداد الصياح وإذا بالصائح الهائج واحد اسمه محمد مورو يحمل لقب دكتور!! وعبثًا حاولت أن أهدئه إلا أن الموجة اتسعت لينضم إليه في الصياح آخرون، فيما صديقي المهندس جورج عجايبي - رحمه الله - صامت شبه مبتسم، ورئيس الجلسة لا يتدخل، فما كان من بد إلا أن أحسم باستدعاء النص القرآني الكريم من سورة "آل عمران" الآيات 113- 115 : "ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون. يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين. وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين" صدق الله العظيم. وما أن انتهيت بصعوبة من تلاوة النص القرآني محاولاً رفع صوتي إلى أقصاه للتغلب على استمرار الصائحين، حتى علا صراخ ذلك المورو حول أسباب التنزيل، ومن حظي الطيب أن كنت قرأت في أسباب تنزيل الآية، وهي على ما أتذكر أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم دخل ليصلي العشاء متأخرًا والطقس شديد البرودة فوجد بعض أصحابه ينتظرونه فقال لهم ما معناه ما على وجه الأرض أحد يعبد الله كما تعبدون، ولكن النص نزل مصححًا بأن من أهل الكتاب من يسهرون الليل للعبادة أيضًا، وكان النص واضحًا في قضية الإيمان تحديدًا.. ومع ذلك ورغمه إلا أن بعض الصائحين رفعوا عقيرتهم بأن يطلب الحزب لجنة من الأزهر لتبحث إذا كان المسيحيون المصريون مؤمنين أم لا؟!

هذا ما جرى في مركز بحثي تابع لحزب يقوده أعلام وطنيون، منذ سنين طويلة فإذا مددنا الخيط إلى حقبتنا الحالية، ونظرنا إلى ما يصرخ به ياسر برهامي وأمثاله حول كفر المسيحيين، علنًا وفي وسائل الاتصال وبعض الفضائيات وفي مساجدهم السلفية وحلقات دروسهم ودوائر وعظهم، لأدركنا حجم وهول وفداحة المأساة التي نعيش فيها، حيث إن وعي الكائنات التي فتكت بالمواطنة المصرية في قرية الكرم هو وعي شكلته تلك التركيبة، التي تحدثت عنها في واقعة حزب العمل، وفي الخطاب المنحط لبرهامي وأمثاله.

ولذلك وبذلك فإن اللجوء للحلول الأمنية وللمصالحات بتبادل الأحضان والقبلات وعزومات أكل البط والحمام لن يجدي على الإطلاق، وسوف تبقى عوامل التخلف ضاربة في جذور المجتمع ما لم تتم تنمية شاملة ومستدامة، وما لم يتم تغيير جذري للوعي الاجتماعي عبر تغيير جذري في التعليم والثقافة، ومنها ما يسمى بالخطاب الدعوي في المؤسسات الدينية على الناحيتين.

ولنا وقفات أخرى قد تكون أكثر وضوحًا ومكاشفة.
                                
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 1 يونيو 2016

No comments:

Post a Comment