Wednesday 22 June 2016

نداء للعجاتي.. والجمال




من غير قرف ومن غير زعل.. قرف من إيه وزعل من إيه سوف أوضح ليه؟ وأبدأ كالعادة بهامش ذكريات عندما كان سطح دارنا في ضاحية متطرفة عن قلب مدينة طنطا، يعج بالدواجن التي تضم مع الدجاج- أي الفراخ- كل ما هو داجن؛ أي تم تدجينه يعني استئناسه من طير وحيوان؛ فهذه فصيلة الرومي ديوكا وإناثا، وتلك فصيلة البط "ضكرا" أي ذكرا و"نتاية" أي أنثى، ناهيك عن الفراخ من النوع الهندي الذي كان والدي- رحمة الله عليه- يهوى شراءه من محترفي تربيته لأجل المصارعة، ويذهب الوالد ليشتري الصنف طويل الساقين مفرود العنق زاهي الريش حاد المنقار، وكان الخنجر- أي الظفر الذي يعلو كف الطائر- أكثر حدة من منقاره، وكان لحمه أحمر أقرب إلى لحم "موزة" الضأن أو البتلو! ونطلقه على السطوح للزهو بمنظره وللأكل وليس للمصارعة طبعا، ومعه أنواع اللجهورن ذات الحجم الكبير، ثم تأتي دواجن الحيوان من أرانب الشانشيلا وبعض الجديان والعنزات وأحيانا الخراف.. وكم كان المشهد طريفا ومثيرا ومبهجا عندما تطلع صينية شاي العصاري بالنعناع وسيد الدار يحتل كرسيا، فيما سيدة الدار الوالدة ونحن أو بعضنا معها نلقي بالذرة والقمح المدشوشين، وعيدان البرسيم والذرة الغضة لكل تلك الكائنات ويدور الصراع على الالتقاط والالتهام والتكاثر، وكم من مشاهد شديدة الإضحاك كانت تدور بأبطال لا ينطقون كلاما وإنما أصواتا ولكل حالة صوتها.. بين "مكاكية" و"محاحية" و"كركرة" و"مأمأة" وأخرى لم أعرف لها اسما حتى الآن رغم الخبرة الطويلة نسبيا في ألسنات الحيوان والطير، كصوت الأرنب مثلا، خاصة عند العراك على الإناث.

ثم لا أنسى "غية الحمام" التي كان مؤسسها وراعيها أخي حمدي الذي كان يجيد تقليد صوت أنثى الحمام ليجذب الفرخ "الزغلول" الصغير يتيم الأم ليصعد على صدره ويضع منقاره عند فمه ليأخذ منه خلطة الحب والماء، بعد رحيل أمه!

كان السطوح هو المصدر الاستراتيجي للبروتين، فلا نلجأ لجزار ولا سماك، وكان مشهد "سبت" سلة البيض الأحمر والأبيض الممتلئة لآخرها مشهدا لا ينسى وهي تهبط إلى المطبخ ليتوزع البيض بين فارغ من التلقيح ليؤكل وبين ملقح يحجز ليذهب مع عصام أو معي إلى قرية برما حيث المفارخ المحترفة، ويتسلم القائم على المفرخ البيض ليضع على كل واحدة علامة بحبر ولون مميز يدل على صاحبها، وبعد أقل من أسبوع تكون الزيارة الثانية لنأخذ البيض الذي ظهر أنه لن يستجيب للفقس حتى لا يفسد.. وكان هذا البيض بالذات هو ما تصنع منه "العجة".. والعجة كما تعلمون حضراتكم خلطة من البيض المخفوق مع تشكيلة من البصل والبهارات وخضروات حسب ذوق وحرفنة من يعدها.. أكلة سريعة ورخيصة فيها خلطبيطة قد تجلب حرقان فم المعدة وغازات القولون أحيانا!

ومن غير قرف الذين سيتصورون أن البيض كان على وشك الفساد، ومن غير زعل من سأستكمل السطور بهما فإن البعض- وعلى رأسهم السيد الوزير المسؤول عن البرلمان ومعه رمز بارز من رموز ائتلاف حب مصر- يريان أن المصالحة مع الإخوان واردة ودستورية، ومن المصادفة البحتة أن سيادته اسمه العجاتي! وحسبما أعلم فإن الاسم لا علاقة له بالعجة، وإن كان على صلة بالمطاعم الشهيرة وبالفضة! وهذا ليس تنابزا بالألقاب حاشا لله!

إن الحياة السياسية فيما أظن ليست أكلة عجة يمكن ان يتوارى فيها البيض- شبه الفاسد- مع مكونات أخرى وتتكفل حرارة الطبخ بالباقي، وليست أيضا خناقة في حارة أو غيط أو نادي بلياردو يمكن أن تشتعل وسرعان ما يتقدم الساعون بالخير لأجل المصالحة ومعلهش ووحياة العيش والملح وربما المزة المشتركة وخلاص هذه المرة، وامسحوها في دقني أنا.. وراسك أبوسها.. وهات مشاريب يا ابني وعلى حسابي!

الحياة السياسية علم له أصول كتبت فيها عشرات المراجع، وممارسة تأصلت عبر قرون في مجتمعات دفعت ثمنها وأدركت استحالة البناء على أرض رخوة، واستحالة أن تلدغ الأمة من جحر مرتين، فيما الأستاذ المستشار ومعه سيادة اللواء يريدان للأمة أن تلدغ للمرة التي بلا عدد من الجحر ذاته!

ماذا تعني مصالحة مع من لم تلوث أياديهم بالدماء ولم يمارسوا العنف، وكأن القضية تتصل فقط بأحداث رابعة وما بعدها؟! إذا كان هذا واردا فلنا أن نتخيل ألمانيا وإيطاليا مثلا يسمحان بعودة النازي والفاشي إلى الحياة السياسية، لأن الذي سيعود الآن لم يتورط في ممارسات نازي هتلر وفاشي موسوليني!

وكيف يفوت على رجل قانون كالمستشار العجاتي، ورجل أمن كاللواء سعد الجمال- وهو صديق ولسنا أقرباء- أن الأمر ليس متصلا بتلوث الأيادي بالدماء والعنف وإنما متصل بأصل الفكرة والاعتقاد الأيديولوجي والبنية السياسية والأطر التنظيمية لكل ما ومن هو زاعم أنه مستند لمرجعية دينية، يتساوى في ذلك الإخوان والجهاد والسلفيون ومن على شاكلتهم!

إنني أدعو المستشار العجاتي واللواء الجمال لأن يفصحا للأمة عن "الطبخة" التي قد نكون جميعا آخر من يعلم بـ"الخلطبيطة" التي تعد للإنضاج، وما هي مكوناتها ومحسنات طعمها ولونها وما هي آثارها المرتقبة، خاصة أننا- والضمير هنا يعود على الكاتب ومئات من الكتاب والمفكرين والصحفيين وملايين من المواطنين- خضنا معركة المواجهة مع الإخوان.. بعضنا مثلي خاضها منذ عشرات السنين، وبعضنا خاضها بعد أن أدرك حجم وعمق خطورة هذا التيار الرهيب على الأمة!

إنني أشك أن سيادة المستشار العجاتي كان منخرطا بحال في النشاط السياسي الطلابي أثناء وجوده في الجامعة، فربما كان مشغولا بالمذاكرة والتفوق أملا في النيابة والقضاء، والحمد لله جاءته النيابة والقضاء والوزارة كمان، وأشك أن اللواء الجمال كان له نشاط طلابي سياسي وهو في كلية الشرطة ولا وهو ضابط صغير، لأنه عرف طريق السياسة بعد ترك الخدمة ونزول الانتخابات النيابية، وبالتالي فإنهما كليهما لم يكتويا بنار التطرف الديني أثناء الدراسة، ولا بعدها بحكم المهنة أيضا، فلا عضو الهيئة القضائية ولا الهيئة الشرطية لهما حق العمل بالسياسة!

ثم إنني قد لا أشك في أن كليهما طالعا رسائل حسن البنا وكتب سيد قطب ومراجع الفكر الجهادي، إن كان يسمى فكرا، ولذلك فأنا واثق فيما إذا كانا قد اطلعا على ما سبق واستوعباه فإنهما لا بد أن يراجعا حكاية المصالحة هذه، لأنه ثبت- وعبر تجربة طويلة- أن هناك أنواعا من القناعات الأيديولوجية لا يمكن التعايش معها حتى إن وجدت، وحتى إن سرت عليها قاعدة أن الفكر لا يواجه إلا بالفكر.. والتجربة التي أعنيها هي تجربة مئات من المفكرين والمثقفين والمهتمين بالعمل العام وبمستقبل الوطن ضمن أطر جمعت القوميين من ناصريين وبعثيين، والماركسيين والليبراليين مع الإخوان ومن سموا بالإسلاميين المستنيرين، ووصل الحوار إلى مناطق واسعة في اهتمامات كل الأطراف، وبمجرد أن اقترب الإخوان من السلطة ثم بمجرد أن جلسوا على كراسيها غلب الطبع التطبع وتحقق المثل القديم: "نهيتك ما انتهيت والطبع فيك غالب.. وديل الكلب ما ينعدل ولو علقت فيه قالب"! إنها تجربة حافلة بتفاصيل أتمنى أن ترصد وتكتب وتحلل وتستخلص منها العبر والدروس!

المصالحة مع حرامي سابق واردة إذا رد المسروقات وأوفى بالمتطلبات القانونية، لأنه لن يعود بوجهه الكالح الموصوم الذي تم تجريسه، وهو يعلم أنه مهما كانت وجاهته وشياكته وكثرة فلوسه فإن الناس كلها تعرف أنه الحرامي الذي ليس لديه مرجعية أخلاقية يستند اليها لتبرير فعله!
أما المصالحة فهي مستحيلة مع من يعتقد اعتقادا جازما أن ما قام به من قتل وتدمير وتخريب وإهلاك للبلاد والعباد إنما كان تقربا لله سبحانه وتعالى وأنه فرض عين على كل من علم مشروعيته، أو على الأقل فرض كفاية يقوم به من لديه العلم والوعي والاستعداد، ومع من يعتقد أن دينه وحده هو الدين الصحيح وما عداه باطل حتى إن أدى الآخرون أركان الدين وأدوا فرائضه ونوافله وعاملوا الناس بخلق حسن!

جناب المستشار وحضرة النائب اللواء أفصحا للأمة عما يتم طبخه، لأننا الذين سندفع الثمن، وربما عادت الوزارة والنيابة إليكما في ظل الإخوان أيضا.
                             
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 22 يونيو 2016.

No comments:

Post a Comment