Wednesday 29 June 2016

سؤال جوهري حول البديل




أتلقى ممتنًا تعليقات كثيرة على ما أكتب في "المصري اليوم"، وتحمل صفحة "فيس بوك" عشرات منها، وهي متاحة لمن يود الاطلاع ويريد تحليل مضامين هذا الديالوج، الذي تمتزج فيه سرديات مجتمعية "سوسيولوجية" مع رؤى سياسية وفكرية، غير أن هناك تعليقًا أراه مهمًا، وهو مهم بالفعل، لأنه يطرح سؤالاً محوريًا جاءني على بريدي الخاص من الصديق المفكر العربي والإعلامي المرموق الأستاذ غسان طهبوب ابن فلسطين المصري الهوى القومي الوجدان، والذي لا يني يذكر فضل المحروسة على جيله وأجيال أخرى في أكثر من مجال، وهو ممن لا يزالون قابضين على جمر الإصرار على الإجادة والتميز في العمل "الصنعة"، وجمر الانتماء العربي الحضاري والثقافي، وجمر الوفاء للمودة الإنسانية!

كتب الأستاذ غسان معلقًا على مقال الأربعاء الفائت ومن تعليقه أقتبس: "... أجدد اقتراحي إليك بكتابة مذكراتك / يومياتك، فقد حباك الله قدرة على رصد فريد برؤية خاصة، وتدقيق في تفاصيل حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية بثرائها وقيمها وتفاعلاتها مع بيئتها.. أما ما يتصل بشق المقال المتعلق ببالونات "المصالحة"، فقد أصبت في النتائج التي انتهيت إليها لكن.. ولعنة الله على لكن هذه.. ما هو البديل الممكن لحركة الإخوان المسلمين وأضرابهم من السلفيين ومن لف لفهم؟! من سيبادر إلى ملء الفراغ الفكري الرهيب الذي يلف العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه؟! كيف يمكن لهذا البديل أن يولد؟! أحسب أنك تلاحظ بدايات مراجعات عند الإسلاميين، كما في حالة الغنوشي في تونس، المسبوق بالمغربي بن كيران والمتبوع بإخوان الأردن.. هي على الأرجح - والحديث ما زال للأستاذ طهبوب - مراجعات تكتيكية لمواءمة معطيات المرحلة، لكن سيكون لها آثارها البعيدة وستستقطب اهتمام شبان كثر، خاصة أن مكانة الدين مستقرة في وجدان مجتمعاتنا العربية، وهذا الاستقرار يدركه الغرب بكل مكوناته، وهو ما أسهم في رسم سياساته في المنطقة منذ انتهاء الخلافة العثمانية، وهو على الأرجح أحد أسرار العلاقة التي لم تنقطع بين بريطانيا وحركة الإخوان، وأحد أسباب استمرار الاهتمام الأمريكي بالإخوان والحفاظ على العلاقة معهم.. ومع الأسف فإن الغرب وجد ضالته في الإسلاميين، ونجح في استخدامهم مرة ضد الوطنية المصرية "ثورة 1919"، ومرة أخرى ضد عبد الناصر، وثالثة في فلسطين لإضعاف منظمة التحرير، واليوم لتفتيت كل قطر عربي ينطوي على تنوع ديني وعرقي.. أليس مدهشًا أن الإسلاميين سنة وشيعة شريك أصيل في خراب سوريا والعراق وليبيا واليمن، وفي الانقسام الفلسطيني، وفي مشاكل مصر، وفي الحال اللبنانية والبحرينية؟!.. لا شك أنك تدرك أن الإخوان براجماتيون بامتياز.. بل إن ميكيافيللي تلميذ في البراجماتية مقارنة بهم.. لذلك ليس مستبعدًا أن تكون بالونات "المصالحة" مؤشرًا على شيء ما قيد التداول أو التفاوض وأعود إلى السؤال - والحديث ما زال للأستاذ غسان طهبوب - من سيملأ هذا الفراغ الفكري الضخم في حياتنا العربية..؟! هل ستتمكن نخب الوطنية المصرية من اجتراح وصفة فكرية تستوعب التدين الفطري للناس، وتستوعب المتغيرات الموضوعية، وتحسن مخاطبة الشباب وتعمل على إشراكهم وتقدم رؤى مؤهلة لملء الفراغ، لكي لا يجد أبناؤنا أنفسهم أمام إعادة إنتاج الماضي.. وأقول نخب الوطنية المصرية على وجه التحديد لأنها قطب رحى الفكر والتحديث في عالمنا العربي، ودع عنك كل الأشجار الباسقة اليوم، فهي قد تحجب الغابة ولكن إلى بعض الوقت وليس كل الوقت.."، ويختم الأستاذ طهبوب تعليقه بسؤال آخر مهم: "أعلم أنك مثلي تشعر بأثقال الواقع وهي أثقال قد تستدعي الإحباط لكني أذكر نفسي وأقول متى كان واقعنا العربي منذ العصر العباسي الثاني متحررًا من الأثقال؟! وفقك الله وقدرك على الاستمرار في إضاءة الشمع في هذا الليل البهيم".

انتهى تعليق المفكر العربي غسان طهبوب على مقالي المنشور الأربعاء الفائت، وكان عن المصالحة التي طرحها الوزير العجاتي والنائب اللواء سعد الجمال!

وبداية أقول: إن ما يطرحه الأستاذ غسان هو جوهر كل ما يمكن أن يثار حول مستقبل وطني وقومي أو إقليمي متحرر من وصاية التنظيمات والقوى، التي تزعم مرجعية دينية وفي مقدمتها الإخوان والسلفيون وأضرابهم!

القضية المثارة إذن: ما البديل الذي يملأ الفراغ الناجم عن خلخلة وجود وتأثير تلك الاتجاهات، التي لم تقتصر على الوجود الفكري، وإنما امتدت للواقع العملي اليومي للناس؟! وفي ثنايا طرحه أشار الأستاذ طهبوب إلى لقطة تاريخية مهمة عندما ربط بين انهيار واختفاء الخلافة العثمانية، وظهور الإخوان المسلمين بدعم بريطاني أو بالأصح تفكير البريطانيين في إيجاد بديل للتماسك في المنطقة حول الطرح الديني، ولذا كان إنشاء الإخوان عام 1928 فيما اختفت الخلافة قبل ذلك بزمن وجيز!! وأهمية "اللقطة - الحقيقة"، هي أن أمر حاضرنا ومستقبلنا ليس معادلة محلية محضة، وإنما هناك أطراف أخرى إقليمية ودولية تلعب دورًا في هذا الأمر، وعليه هل يمكن إيجاد بديل يسد الفراغ، وفي الوقت نفسه يحوز قبول تلك الأطراف الإقليمية والدولية أو على الأقل لا يستعديها كي لا تجهضه؟! وذلك مرتبط بسؤال أظنه جوهريًا طالما طرحته من قبل، وهو كيف يمكن أن نبني مصر متماسكة قوية متوازنة، تلعب دورًا مع محيطها بدلاً عن "في محيطها"، دون أن تستفز قرون الاستشعار بالخطر لدى تلك الأطراف فتسارع بضرب التجربة المصرية، كما حدث مع محمد علي وإسماعيل وعبد الناصر؟!

أسئلة أطرحها مع الأستاذ غسان طهبوب، وأرجو أن تتسع دائرة الحوار.. ولا أنكر أن لدي ما أقوله.. وربما أورده في مقال مقبل مع ما سأتلقاه من مشاركات.
                              
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 29 يونيو 2016.

No comments:

Post a Comment