Wednesday 8 June 2016

خالدة الذكر!!




لا بأس من انعطافة رمضانية يلوذ بها المرء من شرد السياسة وجحيم تراشقاتها، وأظن أن لكل مرحلة عمرية انعطافاتها الحتمية، خاصة إذا كانت ضفاف نهر الذاكرة متنوعة التضاريس بين طين القرية وأسفلت المدينة ورمل القشلاق وطراوة عصاري الغيط، وبرودة مكيفات الترحيلة النفطية!

في رمضاننا الذي انطوى كانت الطبلية.. دائرة الاكتمال للعيلة الكبيرة وللأسرة الصغيرة.. ليس لها صدر يجلس إليه الكبير على ضلع لا يشاركه فيه أحد، والكل متجاور بلا فواصل، ومع ذلك كان للكبير شأنه على محيطها، إذ لم يكن شرطًا أن يحتكر الذكور مكانة الكبير، بل خضع كل الذكور لستي الحاجة بلا منازع وبلا لكلكة!.. كانت الحاجة هي الكبير بيمناها السمراء المحلاة بالوشم الأخضر!!

وفي قريتنا آنذاك كانوا يميزون بين النجارين فينزلون صانع الطبلية في أدنى درك المهنة.. إذ يحتل القمة نجار الموبيليا "النابوليا"، يليه نزولاً نجار الباب والشباك، ومن بعده نجار السواقي، مصمم التروس الخشبية الضخمة المستديرة وصانعها، ومعها الشُّبك – شين مشددة مرفوعة- والنَّاف – نون مشددة مفتوحة- ثم يأتي نجار الطبالي -جمع طبلية- التي لا تحتاج إلا لمهارة تقطيع الخشب وتجميعه في قرص دائري مرتفع عن الأرض "شبرين"- مثنى شبر- حيث الشبر هو المسافة بين طرف الخنصر وطرف الإبهام في كف مفرود.. أي حوالي عشرين سنتيمترًا! وهو الارتفاع الذي يمكن للجالس على مقعدته أو مقرفصًا أو على ركبة ونصف أن يصل بذراعه ويده إلى صحون الطعام! وكان الجلوس على "ركبة ونصف" – أي ساق متنية تحت البدن والأخرى مرفوعة ومثنية- جلوسًا ضروريًا عند ازياد العدد مما لا يسمح إلا بتسلل الذراع ومراعاة عدم الاصطدام بذراع أخرى، أو تعمد السبق إلى الجانب الآخر من الصحن الكبير "الأنجر"، حيث الأرز أو الفتة أو الطبيخ!

كانت الطبلية دومًا جاهزة لتوسط وسط الدار أو المنضرة "المنظرة"، وهي الغرفة الكبيرة المفروشة بأقيسة الحصير - جمع قياس- وهو مصنوع من عيدان نبات "السمر" المجفف، وتنسج في خيوط التيل المتينة، ثم تحلى أطراف القياس برسومات ملونة بالنيلة الزرقاء!! ولذلك كان النيل مشتقًا من ذات الاسم لأن مياهه زرقاء! وبعد أن ينتهي الطعام تمسح الطبلية وتغسل، ثم تعود لمطرحها مسنودة إلى الحائط.. ويا مائة ألف داهية دقي على دماغ زوجة الابن التي عليها الدور في تجهيز الأكل وتجهيز الطبلية إذا تصادف ولم تلتفت إلى تنظيف أحرف الطبلية من براز الدجاج الذي يقفز عليها وهي مركونة لينام بلا إزعاج.. وكم كانت الفراخ سببًا لنكد مقيم جراء فضلاتها الملتصقة بأية أداة للطعام أو الشراب أو الجلوس!

وفي رمضاننا فطورًا أو سحورًا كان لا بد من اللحاق بالجماعة في تناول الوجبة، فالجميع لا بد أن ينتظروا المتأخر.. والمتأخر يفعل المستحيل للعودة عند موعد الإفطار أو السحور، وكثيرًا في مرحلة أسفلت المدينة يستبدل بالطبلية ورق جرايد مفروش، على الأرض، وفي مرحلة القشلاق مشمع ميري مفرود على الرمل، أما في مرحلة الزنازين فقد كان البلاط مباشرة هو الطبلية.. وفي كل المراحل استمرت تقاليدها وآدابها، بل ويا للعجب فإن الطبلية فرضت وجودها فيما "أوضة" السفرة منتصبة بالمائدة المرتفعة ومن حولها الكراسي والبوفيهات والنيش ودولاب الفضية!.. بل كانت السفرة مصدر إزعاج حقيقيًا إذا لم يسمح زحام كراسيها بتوافر مساحة مناسبة للدائرة المكتملة الملتئمة من حول خالدة الذكر.. وكثيرًا ما ربطت بين حكاية "توطين البدو" بإقامة منازل مبنية لهم فإذا بهم ينصبون الخيمة داخل حوش الدار الجديدة، مثلما كنا نضع الطبلية اعتزازًا ومحبة ولا نلتفت للسفرة اللهم إلا إذا جاءنا ضيوف أغراب فيتعين التباهي بأطقم الصيني والمفارش والفضيات والفوط المطرزة!

كانت للطبلية تقاليدها وآدابها، كما أسلفت ابتداءً من طريقة الجلوس المناسبة لعدد الجالسين، ومرورًا بالاقتراب من الغموس "كل بيمينك وكل مما يليك"! وليس انتهاءً بتسلم "النايب" من يد ستي الحاجة التي كانت تحرص على ستر نصيب كل واحد حتى لا تقع عين غيره عليه، وهي تعلم ماذا يفضل هذا وذاك.. لأن هناك من يريدها حتة "قطعة" طرية مدهنة، ومن يريدها حمراء بلا دهن، ومن يحب مرمشة، العظم ومن لا أسنان لديه للمرمشة.. ولا أدري حتى الآن كيف كانت الحاجة توفر الأنصبة "المنابات" وفق تلك الأمزجة المتعددة!

وأظن أن الطبلية كانت جزءًا من التكوين الوجداني أو بالأصح كانت عاملاً أساسيًا مساعدًا في تعميق منظومة القيم الإيجابية لدى الناس.. فنحن حتى الآن نتكلم بإعجاب وإيجابية عن ذلك "الشبعان على طبلية أبيه"، أي الذي لا يمد يده لمال غيره ولا للمال العام، ولا يرتشي ولا يقبل أن يأخذ إلا ما يستحقه، وبالمقابل نتحدث عن ذلك المشوه "الجعان"، الذي لا تظهر عليه النعمة وهو عنده الملايين، ويظل مستفقرًا إلى ما لا نهاية، لأنه "أصله لم يشبع على طبلية أبيه".. ونحن نتكلم أيضًا عن لقمة هنية تكفي مائة، وعن بصلة المحب التي تفوق الخروف، وعن البركة التي تحل في الأكل فيشبع الجميع فيما الغموس قليل.. ولكن البركة طارحة فيه.. وغير ذلك مما ارتبط في الوجدان الجمعي بالطبلية ولا شيء سواها!

وعلى ذكر الطبلية والطبالي، فقد كان الاسم يطلق على أدوات أخرى غير تلك الطاولة منخفضة الارتفاع، فبعض السواقي المخصصة للري كان يطلق عليها "الطبلية"، والخشبة مزدوجة الجوانب التي يقف عليها المحكوم عليه بالإعدام وتنفتح جوانبها لتميد الأرض من تحته ويهوى في البئر معلقًا من عنقه اسمها "الطبلية" والعياذ بالله!!

أخيرًا هل جاءت "الطبلية" من "الطبلة"، حيث الاستدارة هي السمة الأساسية، وهل بقي في نواحينا نجارون للطبالي يحتلون المرتبة الأدنى، وربما يعايرهم صناع الموبيليا والباب والشباك.. مثلما ينعت غشيم الصنعة في أي مجال، وخاصة في الكتابة الأدبية فيقال له: إنه ليس روائيًا بل نجار طبالي؟!!
                              
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 8 يونيو 2016

No comments:

Post a Comment