Wednesday 15 June 2016

ليس حنينا مرضيًا




كأن سطور مقال الأسبوع الفائت عن "خالدة الذكر.. الطبلية" داست على زر كان جاهزا لتشغيل مراكز الحنين الاجتماعي والحضاري في ذهن ووجدان عشرات من السادة القراء الذين شرفوني بتعليقاتهم المكتوبة عدا عن عدة مئات اكتفوا بالإشارة إلى أنهم قرأوا ما كتب.

وبداية أعرف وزني الضئيل أمام ثقافة وتاريخ أسماء ممن تفضلوا بالتعليق، وأعرف أيضا أن المشاركة في الحوار كثيرا ما تتم نظرا لأهمية الفكرة المطروحة وملامستها لاهتمامات المشاركين أو اتصالها بتكوينهم الإنساني أكثر من انتساب الفكرة لكاتب، ومن هنا أجد من المناسب طرح السؤال المتصل بما نتحدث عنه: لماذا أصبح استقبال الكثيرين من المثقفين ومن المهمومين بالشأن العام لما يكتب في مجالات الاجتماع، والأبعاد الحضارية والثقافية، وفي مجال التفاعلات الإنسانية بما فيها الذكريات أهم وأشمل من استقبالهم لما يكتب في مجال السياسة وما يتصل بها من جوانب؟! ومن المؤكد أن الإجابة تحتمل العديد من الاتجاهات التي يأتي في مقدمتها ما يميل إليه البعض من تفسير نفسي أو نفسي ـ اجتماعي، إذ قد يعتبرون الأمر هروبا من الواقع بمشاكله ومراراته وآفاقه شبه المسدودة، ومن ثم يعتبرون الأمر عرضا لمرض يأخذ بتلابيب المجتمعات فيما يصفونه بمراحل الضعف ومثلها مراحل التحول فتتجه للحنين المرضي لمراحل سابقة.

وهناك إجابات أخرى منها ما أظنه على مستواي الشخصي صحيحا، وهو أن الأمر متصل بما يشبه الحالات العضوية التي يحتاج فيها الجسم إلى "الخلايا الجذعية" وأيضا الحالات التاريخية التي يحتاج فيها المجتمع إلى استنهاض همته باستدعاء نقاط الضوء ومناطق القوة في مسارها وتكوينها.. وما "الخلايا الجذعية" في حالتنا إلا ذرات من "مشيمة" وجودنا الحضاري الذي راكمناه عبر آلاف السنين، وكنا نختصره في كل مراحل تاريخنا في تقاليد اجتماعية وثقافية، وبالتالي فتلك المشيمة يمكن ترجمتها إلى "الهوية".. وعندئذ يكون الاهتمام بمفردات منها ثقافة تناول الطعام "الطبلية" هو اهتمام عميق بفلسفة تفاعلات الوجود الاجتماعي المصري عبر العصور!

كثيرون لا يتوقفون طويلا أمام حنين جارف للتجوال في حواري ودروب وأزقة وشوارع ومساجد ومقاهي وأسواق القاهرة المسيحية والإسلامية مثلا، التي تضم مباني ومعاني لحقب متعاقبة منذ دان المصريون بالمسيحية ثم بالإسلام عبر مراحل رومانية وصدر إسلامية ثم أموية وعباسية وهلم جرا.. ومع ذلك الحنين حنين مماثل للتسكع في الأماكن ذاتها التي عرفها الإنسان الفرد ولعب فيها أو تسكع في صباه وشبابه المبكر، لأنني عن نفسي أجدني مولعا بالأمرين فأذهب مشيا من مكتبي في شارع قصر النيل إلى ميدان الأزبكية وأتأمل تمثال القائد العربي إبراهيم باشا وما كتب على قاعدته، وأتذكر حكاية السعدني الكبير عن "أبو أصبع" وكيف صار تمثال إبراهيم باشا أمثولة للتندر الاستنكاري لدى العامة، لأنه جاءت فترة أهملت فيها المنطقة من حول التمثال وكلما حل الظلام الدامس ليلا تجمع القوادون تحت أقدام القائد العظيم ليمارسوا مهنتهم، ومن هنا أصبح "أبو أصبع" ـ لأن القائد يرفع ذراعه ويشير بأصبعه ناحية الغرب ـ رمزا لمعنى كريه.. ولذا كان الشخص العامي إذا اتهمه أحد بأنه كذا.. يرد: "أبدا.. أنت فاكرني أبو أصبع"!.. ثم أتجه مباشرة إلى العتبة الخضراء ومنها إلى باب الخلق فدرب سعادة متجها لشارع جوهر الصقلي "الأزهر" وأقف طويلا عند جامع شرف الدين وأخيه، حيث كانت خدمتي الطويلة بالجلباب حافيا في موالد مولانا الإمام الحسين أقدم الدقة والفول النابت، وفي الليلة الكبيرة الفتة وهبر اللحم للدراويش والزوار، وأتولى تنظيم الأحذية على المدخل، وأشارك في حضرة الذكر فأصل إلى الانتشاء الممتع وكأن المكان كله يخف ويشف ويطير، وتنهمر دموع ويعلو نشيج فيما المنشد ينشد: يا مجلي القمل بالنور.. جلي قلبي من الكدر.. أو ينشد لابن الفارض لاميته المشهورة: "أنتم فروضي ونفلي.. أنتم حديثي وشغلي.." إلى أن يقول: فالموت فيه حياتي.. وفي حياتي قتلي!! وبعدها أميل إلى شارع المعز لأذهب للمشهد الحسيني عن طريق الزقاق المغطى الموصل لبيت القاضي!!

وعلى الجانب الآخر، أي الأمر الثاني، فكلما نزلت إلى طنطا وإلى "جناج" قريتنا، أذهب من فوري في الأولى إلى الحواري المحيطة بشارع سعد الدين، وهي حواري طويلة جدا وضيقة يحفها الظل طوال اليوم، إذ كنت أفضل السير فيها وليس في الشارع العمومي حتى لا أضبط وأنا أدخن الوينجز فيما أنا فتى لم ينبت شاربه!! أما في الثانية قريتنا فهي ذكريات لم ولن تنمحي ولطالما كتبتها!

ومع هذا الحنين الصحي يتدفق الوعي بالانتماء وبالهوية وتتجدد خلايا المرء الجذعية وتزداد قوة جهاز مناعته الوطنية بالتالي، ليواجه كل الهجمات التترية الوحشية التي تريد الفتك بحاضرنا ومستقبلنا، بزعم أنها التعبير الأمثل عن ماضينا الذي هو معيار انصلاح حالنا في كل الأوقات "لن ينصلح حال الأمة في حاضرها إلا بما انصلح به الحال في ماضيها"!!.. هكذا هم يصادروننا تاريخا وحضارة وثقافة ولابد من الصمود الواثق، وأوله هو إعادة الاعتبار لماضينا وجوهر تكويننا الحضاري والثقافي المصري ذي البصمة المتميزة ـ وليس شرطا أن الميزة تقتضي الأفضلية ـ بلا شوفينية ضيقة وبلا تفريط يجعل من الخيانة وجهة نظر!!

لقد فتح الكلام عن "الطبلية" في سطور مقال صحفي عابر مسارات شديدة العمق حول فن الكتابة.. وحول الشخصية المصرية.. وحول سمات التكوين الأسري السوي.. وحول التقاليد والعادات والسلوكيات.. وحول الاغتراب بالمعنى النفسي الاجتماعي والثقافي.. ولذلك يجد الكاتب نفسه أمام معضلة الاستمرار في تجديد خلايا الذاكرة المجتمعية على حساب الاهتمام بقضايا الواقع اليومي.. فالنجدة.. النجدة.
                        
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 15 يونيو 2016

No comments:

Post a Comment