Wednesday 7 December 2016

عن إثيوبيا وتاريخها المقدس "1"




لم يتخلف إنسان واحد في مصر سواء كان ممن يفكون الخط أو ممن لا يعرفون الألف من كوز الذرة إلا وتكلم عن أزمة سد النهضة، وبالتالي إثيوبيا أو الحبشة، كما يفضل البعض تسميتها، وتحول الجميع كما هي العادة إلى خبراء في الجغرافيا والجيولوجيا والتربة والزلازل وتدفقات الأمطار، بل وصل الحال ذات لحظة وفي اجتماع على مستوى يفترض أنه رفيع إذ كان المكان هو رئاسة الجمهورية، وكان على رأس الحضور الرئيس آنذاك محمد مرسي، إلى أن يتقمص البعض من أهل السياسة شخصية ودور الجنرالات المحترفين وطاش الكلام عن حرب وعن هجوم مباغت، وعن إثارة القلاقل الطائفية والعرقية في إثيوبيا، وكان يفترض أن الاجتماع سري مغلق، ولكن لأن الاحتراف واصل عند قطاعات واسعة من نخبتنا وشعبنا إلى مستويات غير موجودة في العالم كله، كانت الكاميرات تصور والميكروفونات تعمل والبث المباشر شغال على ودنه، وكانت فضيحة بكل المعايير، وترتب عليها آثار وخيمة في علاقات البلدين!

هذا حول بعض حالنا في ادعاء المعرفة، أما إذا جئنا للجد وسألنا عينة عشوائية من قمة النخبة ووسطها وقاعدتها، ثم من الناس عن مدى معرفته بإثيوبيا من حيث موقعها وتكوينها الجغرافي السياسي والعرقي والثقافي وجذورها التاريخية وآدابها وفنونها وأوتارها الحساسة، أي المناطق التي لا يود الإثيوبيون أن يقتحمها أو يستخف بها أحد، وإلى آخره، لما وجدنا أحدًا يعرف شيئًا من هذا كله اللهم إلا إذا صادفنا أحدًا ما متخصص في الحضارة الإثيوبية أو خبيرًا مدركًا للشأن الإثيوبي ومعه القرن الإفريقي!

عن نفسي لا أزعم أن لدي إلمامًا بما ذكرت، رغم أنني مهتم بالحضارات الإفريقية بوجه عام، ولدول حوض النيل بوجه خاص، ولذلك لم أتردد عن زيارة إثيوبيا ومشاهدة معالمها ومناقشة بعض ساستها ومثقفيها.. وحضرت الاحتفال الضخم بمار جرجس شفيع إثيوبيا ورددت الترانيم، وألقيت كلمة عن المسيحية في مصر وامتدادها في الحبشة!

وعندما وقع في يدي كتاب "جلال الملوك"، "نصوص حبشية قديمة" بعد أن أهداني صديقي الدكتور محسن يوسف جزءًا من مكتبته أدركت أنني أمي فيما يتصل بالتاريخ الإثيوبي ودور الأسطورة فيه، ومقصر في فهم التركيب الثقافي والمؤثرات التاريخية والأسطورية عند الإثيوبيين!

ثم وجدت نفسي مقصرًا أيضًا في معرفة وجه من وجوه العراقة والأصالة والعلم في مصر، وكيف أن القوة الناعمة لبلدنا تفوق ما في أذهاننا بمراحل، إذ عرفت من مقدمة الكتاب أنه مترجم من اللغة الحبشية القديمة المعروفة باللغة الجعزية، وهي كما كتب الأستاذ الدكتور محمد خليفة حسن في المقدمة: اللغة السامية القديمة في الحبشة و"صلاتها باللغة العربية قوية، وعلاقتها بلغة النقوش العربية السبئية وثيقة، حيث انتقل الخط المسند الذي كتبت به النقوش العربية الجنوبية إلى الحبشة، وأصبح أساسًا للكتابة الحبشية.. والجعزية الآن هي لغة الكنيسة الحبشية، ولم تعد لغة حية حيث حلت مكانها اللغة الأمهرية منذ القرن الثالث عشر الميلادي، واستمرت الجعزية لغة دينية للكنيسة الحبشية، ولغة الكتابات الأدبية والتاريخية ذات الطابع الديني الحبشي"،

وعرفت من خلال مقدمة الدكتور خليفة حسن أن هناك تخصصًا في آداب القاهرة في اللغة الجعزية، وأن جامعة القاهرة أنجبت كبار المتخصصين عالميًا في هذه اللغة، ومن أهمهم الأستاذ الدكتور خليل يحيى نامي، والأستاذ الدكتور مراد كامل، والأستاذ الدكتور عبد السميع محمد أحمد، ومن بعدهم جيل آخر من أبرز ممثليه الأستاذ الدكتور محمد خليفة حسن، والأستاذ الدكتور عمر صابر عبد الجليل، أما الجيل الثالث فيمثله الدكتور مجدي عبد الرازق مترجم الكتاب، والمدهش الذي يثير الفخر ويشرح الصدر هو أن هذا التخصص انفرد به قسم اللغات الشرقية بجامعة القاهرة على المستوى المصري والعربي والدولي، فالمتخصصون في اللغة الحبشية القديمة في الغرب الآن قلة قليلة ومتفرقة في جامعاتهم.. ثم إن الكتاب.. كتاب "كبرا نجشت"، أي "عظمة وجلال الملوك"، فهو المصدر الأساسي الذي تمت من خلاله بلورة فلسفة التاريخ الحبشي، وله مستويان من الأهمية، أولهما المستوى التفسيري لتاريخ الحبشة من حيث إطاره ووضعه داخل نسق لاهوتي معين، والثاني هو المستوى التأريخي - بالهمزة - حيث يؤرخ "كبرا نجشت" لتاريخ الحبشة داخل الإطار اللاهوتي الذي تم وضعه، ويبدأ هذا التاريخ ببداية الخليقة وينتهي بظهور المسيحية.. وهو يعتبر كتابًا دينيًا في التاريخ الديني للمسيحية، وقد تسبب هذا البعد الديني في تغلغل القصص الديني إلى تاريخ الحبشة واختلط بالروايات التاريخية، وهنا يشير الدكتور محمد خليفة حسن، الذي أقتبس معظم هذه السطور من مقدمته إلى التشابه بين التاريخ الحبشي وتاريخ بني إسرائيل، حيث العديد من الأحداث التاريخية التي تحولت إلى جزئيات من الدين، وحيث اقتبس التاريخ الحبشي العديد من أساطير تاريخ بني إسرائيل وفسرها تفسيرًا حبشيًا، وليصبح التاريخ الحبشي تاريخًا مقدسًا مثله مثل التاريخ الإسرائيلي.. وللحديث بقية تتصل بمتن النصوص.. نصوص "عظمة الملوك".
                        

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 7 ديسمبر 2016.

No comments:

Post a Comment