Thursday 1 December 2016

أفيدونا.. ماذا في سيناء؟




ليس فأرا واحدا وإنما فريق منها يلعب في عبيّ.. والعُبّ "عين مضمومة وباء مشددة مضمومة" في الفصحي هو كم القميص، أما في العامية فهو المسافة بين صدر الإنسان وملابسه.. إذ يقولون "خش في عبي خش"! ويفتحون طوق الجلابية.. وأنا أقصد العب فصيحا وعاميا، لأن ما يعتصرني من ألم وقلق لدرجة لا أستطيع وصفها أصبح عصيا على التجاهل والإنكار، وبسببه تتداعى على الذهن والفؤاد عشرات الأسئلة، حول ما الذي يحدث في سيناء بالضبط؟!، إذ لم أتخيل أن يحدث ما حدث حتى ولو كان على هيئة كابوس منامي شرير!

ففي جملة كابوسية واحدة كان المبتدأ المفجع هو ذبح الشيخ سليمان أبو حراز السويركي.. وكان الخبر الأكثر فجيعة هو استشهاد رجال كمين الغاز من أبناء القوات المسلحة!

شيخ بمكانته الاجتماعية وبمرحلته العمرية.. أعزل كفيف زاهد متصوف.. وفور اطلاعي على المبتدأ الكالح انهمرت الذكريات في دماغي بأكثر وأسرع مما تنهمر به الكلمات على شاشات الحاسوب ذي القدرة الفائقة.. إذ كنا في الوقت نفسه من فصول السنة تقريبا، لأنني كنت أرتدي بلوفر صوف على قميص وبنطلون في صحبة المغفور له الشيخ علي بن حسن بن خلف السويركي، عضو مجلس الأمة المصري، وهو يقود سيارة فولكس فاجن صغيرة ذات بابين، متجهين إلى قرية جزيرة سعود في أقصى شرق محافظة الشرقية، حيث كان مهبط بعض المهاجرين من شمال سيناء، وعلى رأسهم مولانا صاحب الكرامات الشيخ عيد أبو جرير السويركي.. وكلهم سواركة من فرع أولاد الذروة.. والذروة هي الجدة الكبرى التي كان لها خصلة شعر بيضاء تعرف بها!.. ووصلنا وتناولت طعاما لم أذق أشهى منه منذ 1968 حتى الآن.. لحم ضأن مسلوق وأرز وبامية!

وبعد صلاة العصر تقدم الشيخ عيد نحو مجلسه الذي يجاور مسجدا متواضع الشكل عظيم الدور.. ويجلس في الصدر على حشية "مرتبة" وظهره مستند للحائط، وعلى كتفيه عباءته وعلى رأسه عقال مقصب ذو ثلاث لفات معقودة من حول الغترة البيضاء.. وفي سيناء يقولون "عقال وغترة" أو "عقد ومرير"!.. ونادى الشيخ قائلا: "يا سالم.. هات الديوان".. وسالم شاب سيناوي أسمر يضع شالا أو غترة بدون عقال.. أما الديوان فهو سجل مكتوب بخط اليد الجميل وفيه موضوعات تحدث الشيخ عيد فيها وعنها وتم تسجيلها وكتابتها!

في ذلك المكان كانت التجليات فادحة، إذا جاز لنا أن نصف الخير والنور بالفداحة ولو من باب المبالغة بتسمية الأشياء بضدها!.. إذ تشعر وأنت جالس على الرمال بالطهارة.. التي هي غير النظافة.. إذ كل طاهر نظيف.. وليس كل نظيف طاهرا.. وتشعر وكأن كل ما حولك وأنني معهم شفاف محلق، لأن الكل في واحد هو الحب والمحبوب والمحبون!!.. وكان للشيخ صاحب الكرامات طلعة مهيبة، قامته الفارعة وملامحه الفصيحة كأنه وجه أسد ونظر ثاقب توجهه بصيرة نافذة.. وكانت أقل الكرامات هي المكاشفة اللطيفة غير الجارحة!

في ذلك المكان وبين أولئك الرجال ولدت "منظمة سيناء العربية".. ونفذ رجالها من أبناء سيناء عشرات العمليات خلف خطوط العدو الصهيوني مسلحين بوطنيتهم المصرية وروحهم الصوفية الزاهدة المجاهدة الجبارة، وكنت أطالع مع صديقي المغفور له الشيخ علي بن حسن بن خلف السويركي الرسائل التي يرسلها ابنه المناضل المقاتل المجاهد حسن بن علي بن حسن بن خلف، الذي وشى به من وشى، فقبض عليه من جانب العدو بعد أن وصل لهدفه بالداخل وحُكم بالمؤبد، وكان في سجن عسقلان "أشكلون".. وهو هو نفسه شيخ مجاهدي سيناء وشيخ السواركة الحالي الذي يقف ليتكلم في الندوات التثقيفية للقوات المسلحة أمام رئيس الجمهورية، فيأخذ الألباب ويدمع العيون ويلهب الأكف ونبرته هادئة بكلماته عميقة المضمون!

هنا تلعب الفئران في عبي ووجداني، كيف انتقل أهل سيناء من سماحة وزهد التصوف الشرعي الجميل والوطنية الخالصة والحب والمحبة إلى جفاف وغلظة وجلافة تشرع بعيدا تماما عن الشرع الحنيف!! وكيف استبدلوا بالوطنية انتماء آخر وبالنضال والقتال ضد العدو الصهيوني اقتتالا خبيثا ضد وطنهم وأسرهم وآبائهم.. كيف حدث هذا ومتى ومن الذي أسس لذلك وساهم فيه وتواطأ عليه بإهماله؟!

لقد شاهدت صورة الشيخ الزاهد الصوفي الكفيف سليمان أبو حراز السويركي وهو جاث على ركبتيه يتهيأ لتلقي ضربة السيف من أولاد الحرام وهم مرصوصون وبيد أحدهم يبرز السلاح!.. متى وكيف وأين تم ذلك وبهذه البجاحة المتحدية.. وأسئلة أخرى أعجز عن سوقها حتى لا أصيب برذاذها من هم أغلى عندي من نفسي ومن ولدي!!

وترتع الفئران أكثر وأكثر مع خبر الجملة الإرهابية الدموية، ألا وهو استشهاد أبنائنا من القوات المسلحة في كمين بعد أن استهدفهم الإرهابيون بقسوة وضراوة.. بل وتخطيط وتنفيذ يبدو أنهما محكمان، لتتكرر الأسئلة متى وكيف وأين ولماذا.. لماذا هذا الذي يجري في سيناء مستمر منذ زمن طويل وكيف يتمكن الإرهابيون من تكرار ضرباتهم الموجعة وأين التخطيط المضاد الاحترازي والإجهاضي الصارم؟!.. من أين يأتي هؤلاء الإرهابيون، لأن الحكاية ليست إذن أنفاقا ممتدة عبر الحدود، ولكنها فيما يبدو أخاديد عميقة في التكوين الديموجرافي والثقافي والاجتماعي بشمال سيناء، ولن يكفي لتسويتها أو ردمها أو تطهيرها أمن ولا تنمية فقط، وإنما تواصل مباشر مع الناس هناك لاكتشاف خريطة هذه الأخاديد وعمقها وانحداراتها، ثم إنعاش الذاكرة الجمعية بما كان يسكنها من سماحة وتصوف ووطنية وحب وعاطفة جياشة، تجاه الآخر في المجتمع والوطن.

إن كل المؤشرات تؤكد، ولو من على سطح الواقع، أن تغلغلا قد تم لمذاهب فقهية بعينها تعتمد فقه ابن حنبل وابن تيمية وبعض المحدثين الذين كلما سألت واحدا من المنتمين لهذا الاتجاه عن مسألة، يقول لك من فوره قال الألباني، وقال علان وتلتان ولا يأتي على ذكر القرآن الكريم والسنة وآراء صحابة صدر الإسلام بل ولا يعمل عقله بحال من الأحوال، وكأن أقوال هؤلاء أقدس وأحكم من كل ما عداها حتى لو كان محكم التنزيل!.. ثم تؤكد أيضا ولو بالانطباع أن هذا التوجه قد نجح في شق المجتمع السيناوي رأسيا وأفقيا حتى وصلت الشقوق إلى الأسرة الواحدة، ولذلك قيل إنه من المحتمل أن يكون بعض أبناء الشهيد الشيخ سليمان أبو حراز هم من منفذي الجريمة الشنعاء.. وعندي فإنه إذا كانت القاهرة العاصمة وفي برلمانها عام 2016 ومنذ أيام قليلة، وقف أحد الأعضاء ليعلن أن لو كان نجيب محفوظ حيا لحاكمناه!!.. هذا في القاهرة وفي مجلس النواب، ناهيك عن افتراءات وترهات برهامي وشركاه، فما بالنا بالأطراف البعيدة في الشرق السيناوي والغرب المطروحي؟!

إنني أناشد المسؤولين عن الأمن القومي المصري بمعناه المباشر، يعني أجهزة المخابرات العامة والعسكرية والأمن الوطني، أن يتم الإفصاح وبشفافية عن حقيقة المدى الذي استطاع فيه الإرهاب أن يخترق المجتمع ويشق فيه الأخاديد العميقة بسيناء وغيرها.. وأناشد كل مهموم بهذه القضية أن نستكمل تداعينا، لنلتقي في مشروع "إحياء" الثقافي الاجتماعي، لكي نعيد لمصر بعضا من زهوها الحضاري الثقافي، وإلا فسوف تمتد الأخاديد وتتسع إلى كل مكان.
                            

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 1 ديسمبر 2016.

No comments:

Post a Comment