Wednesday 21 December 2016

"لقيط مخطوف في ملاجئ الصحة"




أعود إلى مسألة الدواء في مصر، وللعلم فقط فإن مصطلح المسألة يتجاوز مصطلحات عديدة صكت للتعبير عن وجود مشكلة أو أزمة، فالمسألة اصطلاحًا وتطورًا تشير إلى معضلة ذات أوجه كثيرة، ولذلك وصف الوضع قبيل انهيار الإمبراطورية العثمانية بـ"المسألة الشرقية"، ووصف الوضع في مصر عند ذروة من ذرى الصراع الاستعماري- التحرري بالمسألة المصرية، وهناك "المسألة البلقانية" وهلم جرا، ويبدو أن موضوع "التسعير"، أي الأسعار، فيه صراع بين من يريدون تسعيرها أي تأجيجها- "وإذا الجحيم سعرت"- وبين من يحرصون على تحريكها بشكل متوازن لا يجحف بحق المنتج أو المستورد ولا بحقوق المستهلكين، وهم في هذه الحالة مستهلكون من نوع خاص.. أي مرضى بمختلف الأمراض، وفيهم المستطيع، والغالبية منهم غير مستطيعين، ولذلك فقد يكون مشروعًا وضع الاعتبار الأخلاقي المستمد من القيم الدينية، أو القيم الإنسانية أو كليهما معا، في المعادلة، رغم أن القاعدة هي أن مدمن الربح لدرجة العبادة لا يتنازل بسهولة عن فحش ربحه، ويعتبر أن ما هو فيه مكافأة إلهية له على رشده وعبقريته واجتهاده وربما فهلوته، ومن هنا فإن ما يسلكه له هو الآخر غطاء أخلاقي اجتهد عديدون من فقهاء التجارة بالدين في أن يجدوا أساسًا له في الكتب السماوية المنزلة وفي سيرة الرسل والأنبياء والصالحين، وأكاد أبتسم بيني وبين نفسي- فيما أكتب هذه السطور- لأنني أعرف أن لدي المقدرة على رص مسوغات من النصوص الدينية تبيح الربح والشطط فيه.. وعلى أي حال جاء في تعقيب أراه مهمًا، فهو من متخصص وممارس ومسؤول.. ثم إنه من خارج دائرة الضوء القاهرية.. إنه الدكتور رجائي قوسه، رئيس شعبة أصحاب الصيدليات بمحافظتي قنا والأقصر، وعضو الشعبة العامة لأصحاب الصيدليات، ونقيب صيادلة الأقصر السابق:

"... تحية طيبة

شدتني مقالات سيادتكم عن أزمة الدواء في مصر، وما زاد من انبهاري بهذه المقالات سببان، أن سيادتكم الوحيد الذي تطرق لهذا الموضوع وبهذا العمق، فالإعلام للأسف الشديد متجاهل تمامًا مشاكل الدواء، وكل نظرتهم لمنظومة الصحة في مصر تقتصر على الطبيب والمعدات الطبية والمستشفيات وإمكانياتها، متناسين تمامًا أن كل ذلك سيصب في ورقة صغيرة تسمى التذكرة الطبية (الروشتة)، التي ستحتوي على أدوية وبدونها لا يمكن أن يحدث علاج لأي مرض، ودواء يعني في أي دولة في العالم يعني صيدلي، صيدلي يصنع الدواء، صيدلي يوزع الدواء، صيدلي في صيدليته يوفر هذا الدواء ويصف استعماله الصحيح للمريض، والتجاهل والتهميش لأهمية دور الصيدلي أمر متعمد من وزارة الصحة التي دائما على رأس قيادتها أطباء يتصورون- بسبب ضيق أفقهم ومصالحهم الشخصية- أن أي تعظيم لدور الصيدلي هو نقصان لدورهم وسلب لحقوقهم ومكاسبهم، لذا كانوا دائما ضد إنشاء مجلس أعلى للدواء يرأسه صيدلي، حتى لا تخرج عن سيطرتهم هذه المنظومة التي ينظرون لها للأسف الشديد كسبوبة لا كعلم وأبحاث وتسويق ومهارة تصنيع وطرق تداول وتعاطي، وهكذا كل تفصيلة في منظومة الصيدلة هي علم ودراسة واقتصاد وتجارة، وتدخل أيضا فيها السياسة، لذا أنا من منطلق رحلة في العمل النقابي لمدة تزيد على عشرين عامًا أؤيد دعوتك بمنتهى الحماس والإخلاص، ولكن أؤكد لك أن المجلس الأعلى للدواء لن يتم إنشاؤه لأن الدواء طفل لقيط مخطوف في ملاجئ وزارة الصحة، ومطلوب فدية لإطلاق سراحه، كل يوم يغالى فيها فلا بد أن يحرر بعملية عسكرية لا نداءات صحفية، ولكي أؤكد لك فكرتي سأطرح على سيادتكم قضية أخرى أرجو أن تلقي عليها الضوء في مقالاتكم القيمة طالما أردت أن تضع يدك في عش الدبابير وجباب الأسود، فكم طالبنا حتى جف اللسان وأنهك الحلق بضرورة كتابة الدواء في الروشتة بالاسم العلمي للدواء وليس بالاسم التجاري، حيث يوجد لنفس الدواء أكثر من خمسة عشر مثيلا بأسعار مختلفة متناقصة، من الدواء المستورد ثم الدواء الذي تصنعه شركة عالمية في مصر ثم المثيل المنتج من شركة محلية، ولكن الأطباء حريصون على كتابة الأدوية المستوردة أو المصنعة من قبل الشركات العالمية لكي يستفيدوا من الهدايا والمؤتمرات والرحلات، هل تعلم سيادتكم أن بعض الهدايا تصل إلى سيارات أحدث موديل ورحلات إلى الخارج مشتملة تذاكر سفر وإقامة في فنادق 7 نجوم لكبار الأطباء، حتى إن بعض الشركات المحلية لكي تواجه هذا أصبحت هي الأخرى تقدم مبالغ مالية لصغار الأطباء، وهكذا أصبح المريض محاصرًا من الأساتذة الكبار حتى أطباء الاستقبال في المستشفيات الحكومية والوحدات، كل ذلك بالطبع تضيفه الشركات على سعر الدواء ويدفعه المريض من قوته تكلفة إضافية مبالغًا فيها تؤثر بل تدمر اقتصاد الدولة، ووزير الصحة يعلم ذلك، بل كل وزراء الصحة يعلمون هذه الحقيقة ويعرفون أن سعر الدواء سينخفض إلى أقل من الثلث فقط بقرار وزاري واحد يُلزم الأطباء بكتابة الدواء بالاسم العلمي ويعطي المريض حرية اختيار الدواء حسب قدرته المادية وإمكانياته، ولكن هيهات وهيهات فأباطرة الفساد أقوى من أي مصلحة.

ولكن ونحن في هذه اللحظة الفارقة التي من الممكن أن يصل فيها سعر الدواء إلى أضعاف أضعاف ثمنه، ومن الممكن جدا أن يصبح سعر الدواء فوق إمكانيات 70% من الشعب المصري لنصل إلى ما يعرف بالمجاعة الدوائية، فالمشكلة ليست في ارتفاع تكلفة إنتاجه فقط ولكن المشكلة في تضاعف سعر الرحلات الخارجية والهدايا والجنيهات الذهبية والأقلام المستوردة ذات الماركات العالمية، فلو كانت المشكلة في سعر تكلفة الإنتاج لهان الأمر، لذا السؤال الآن: هل سنجد الدولة تقف في جانب المريض المصري أم كالعادة ستخذله لتقف في صف الطبيب ومصالحه ومزاجه ومكاسبه؟! وأنا أؤكد لسيادتك أن الوزير سيختار بالطبع الانحياز لأبناء مهنته وليذهب المريض المصري إلى الجحيم.

ولكن لأن مصر ما زالت تنبض بالرجال ستظل صرختنا دائما في وجه الفساد رغم أننا نعلم أننا نصرخ أمام وزارة يسكنها من هم أعتى وأشد إجرامًا من كل مافيا العالم مجتمعة، ولكن الأمل في الأقلام الشريفة التي بين أيديكم لكي تدق أجراس الإنذار وتفضح هذه الشبكة العنكبوتية الخفاشية من المصالح القذرة.

ولكم مني جزيل الشكر والتقدير على دوركم التنويري والتثقيفي لخدمة الوطن".

وربما يكون للحديث صلة.
                             

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 21 ديسمبر 2016.

No comments:

Post a Comment