Thursday 15 December 2016

"يسألون"




أكتب هذه السطور مساء الاثنين حزينًا مكلومًا قليل الحيلة.. وقد سمعت من يسأل عمّن وراءهم؟

..وراءهم العينة البشرية التي لم تترك صغيرة ولا كبيرة أو قل أدمنت الكبائر التي أنتجتهم في البدء والأساس.. العينة التي خربت البلد إذ التهمت المائدة على عهد السادات وخلفه المسخ، وفتحت أشداقها ترحيبًا بالإخوان ثم هي هي نفسها التي تتصدر معظم المشهد الآن، ولولا أن "الأهرام" لن تقبل كصحيفة أن أبرهن بالأسماء الواضحة الصريحة لما ترددت أن أفعل!

وراءهم ازدواج في المنظومة التعليمية التي تؤسس للوجدان الجمعي وتشكل المسار الثقافي- الاجتماعي.. ازدواج بين تلقين وحفظ واستظهار واستغراق في المتون والحواشي وميل متعمد لتعقيد ما يسّره رب العباد حتى نشأت واستمرت فئة كهنوتية تحتكر لنفسها كل ما يمت للعلاقة بين المسلم وربه واستمرأت المراوغة بالاستجابات الشكلية التي تجهض كل دعوة للإصلاح وبين إعمال للعقل والنقد ومناهج العلم النسبية واطلاع على إنجاز العقل الإنساني. وفصل حاسم صارم بين مؤسسات التدين وبين أن تتدخل في شأن الحكم واحتفاظ واثق بالدين كمصدر وحارس لمنظومة القيم العليا التي لا يختلف عليها إلا معتوه!

وراءهم تمسك بالشكل في معظم إن لم يكن كل جانب من جوانب الحياة، وكأن الجميع اتفقوا على "لبس المزيكة"، حيث كانت تلجأ بعض الأسر التي جار عليها الزمان لاستئجار بعض العاطلين لكي يلبسوا ملابس رسمية أنيقة مستأجرة ويتقدموا صفوف جنازة المرحوم خلف فرقة الموسيقى التي تصدح بألحان جنائزية حزينة.. وكان الشرط الوحيد هو أن يبدو العاطل ذا قامة "شاسيها" مهيبة! ولم يفلت مرض "الشكلية" جهة حتى دور العبادة.. رخام.. وسجاد وموكيت ونقوش ومآذن فارعة وميكروفونات كثيفة وأصوات لا تستحي أن تكون منكرة وهي تردد أجمل وأعمق معنى.. ناهيك عن المكيفات وقاعات المناسبات وفرق المحترفين في استنزاف ما في جيوب خلق الله ليحرم على الدار ما يزعمون أنه إنفاق في سبيل الجامع! ولذلك عاد الإسلام غريبًا كما بدأ غريبًا، مع فرق نوعي، هو أن غربته الأولى كانت بالتخلي عن الإعلان وعن الشكل والاحتفاظ بالإيمان داخل الصدر!

وغربته الثانية الحالية هي بالتمسك بالإعلان الشكلي وخلو الصدور من ذرة إيمان واحدة!

وقس على ذلك التعليم الذي يفترض أنه- كما سبق وأسلفت- يعلي العقل والعلم والبحث، فإذا به كمّ بغير كيف، وبحث علمي موؤود ومد الخيط على أي امتداد في أي اتجاه لتصطدم عينك بأبهى شكل دون أدنى مضمون!

وراءهم قبول رسمي بالوجود الفاعل ضمن البرلمان والأحزاب والصحافة والإعلام والمساجد بمن لا يتردد ولا يتوارى ولا حتى يخافت بما يقول.. حيث القول هو إن المسيحيين كفار وسيدخلون النار، ولو حدث وتزوج مسلم امرأة مسيحية فعليه أن يشعرها صراحة وفي كل وقت بالبغض، وإذا دخل فلا يلقي عليها السلام، وكل ما يربطه بها هو أن يستمتع جنسيًا معها مثلما يفعل الذكر مع البغي! هذا كلام ليس مرسلًا ولا افتراء وإنما سمعته وشاهدت قائله وهو يقوله واسمه ياسر برهامي.. ويومها.. يوم شاهدته وسمعته.. كتبت في هذه المساحة من "الأهرام" متسائلا مستنكرا عن السر في أن عين السلطات تبدو مكسورة أمام هؤلاء المتسلفين الأوباش!

وراءهم منظومة قانونية معقدة ومتشابكة ومتلكئة وغير ناجزة وغير رادعة، ومعها أجهزة للتحري والتحقيق ما قبل القضائي، مغلولة وربما مرتعشة وربما أيضا تحكمها توازنات وربما أخيرًا مخترقة، فإذا انتقل الأمر للقضاء نيابة ومحاكم جاء ناقصًا مبتورًا لا يساعد القاضي على أن يستند وجدانه على دعائم قوية ثابتة فلا يكون نقض يبطل ما قضى به بعد ذلك.

وراءهم صحافة يقوم على أمرها من عرفنا وتيقنا أن معظمهم مصاب بالأمية الهجائية والإملائية والنحوية والمهنية والثقافية والسياسية والدينية وأيضا الأخلاقية.. وتليفزيون أرضي وفضائي يقوم على أمره من لم يفلتهم المرض نفسه، بل ويزيدون مرضًا يتفشى في أوساطهم هو سماكة الجلد وعصامية الجهل وقلة الحياء التي تجعل الواحد أو الواحدة منهم يفعل ما يشاء!

وراءهم محنة وطن ومأساة بلد هو بالجغرافيا والتاريخ والحضارة والثقافة ملء السمع والبصر، ولكن أبناءه- خاصة من شاء الحظ التعس أن يكونوا ولاة أمره في حقب قليلة مضت- لم يحملوا مسؤوليتهم تجاهه فسرقوه ونهبوه ورهنوه في أسواق النخاسة الإقليمية والدولية، وأتخمت بطونهم وخزائنهم بالحرام الذي نهبوه منه، فكان أن تداعت عليه نفايات الجغرافيا في الإقليم وحثالات العمالة في المعمورة ليعبثوا بأمنه وأمانه وينتهكوا عزته وكرامته.

ووراءهم أخيرًا وليس آخرا نخبة سياسية واجتماعية مالية عجزت عن أن تفكر لحظة في طريق سليمة واضحة تمحو عنها عار أن تكون في مقدمة صفوف وطن يحدث فيه كل ما سبق.
                          

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 15 ديسمبر 2016.

No comments:

Post a Comment