Thursday 14 February 2019

"دستور.. يا أسيادنا"





بعيدًا عن نتيجة بقية إجراءات تعديل الدستور.. وبصرف النظر عما إذا كنت من مؤيدي التعديل أو من رافضيه أو ممن لا يعنيهم الأمر، فإن متابعتي لما يكتب على الفيس بوك وفي الصحافة وما يقال في بعض برامج التليفزيون، تشير إلى أن الأمر تحول إلى ظاهرة تستحق التأمل، وتضاف إلى ما أسميته "الجدل القاهري"، على وزن "الجدل البيزنطي"، غير أن القاهري تفوّق بمراحل على البيزنطي الذي اقتصر على مدة قصيرة، كانت هي زمن انعقاد أحد المجامع المسكونية "المؤتمرات الكنسية الدولية"، وكانت القضية هي طبيعة السيد المسيح- له المجد- أما القاهري فهو ممتد متشعب محتدم.. حول يوليو وعبد الناصر.. حول الرأسمالية ورأسمالية الدولة.. وحول دور الجيش في الحياة العامة.. وحول العلاقات المصرية– السعودية، وفي هذه الأيام أضيف موضوع تعديل الدستور، ليزداد التفتيت والتمزق والاختلاف فيما البلد يحاول الفلفصة من أصابع الإرهاب والفساد والتخلف وكل السلسال الذي يعرفه الجميع.. ومن عجب أن الجدل قاهري، بمعنى أنه بين صفوف بعض من يسمون النخب السياسية والفكرية الذين يندر أن تجد فيهم أحدًا وقد انكوى بلهيب المشاكل الحياتية اليومية.

لفت نظري أن الذين حاربوا ويحاربون وبجسارة وضراوة ونفس طويل ضد سلطة النص الديني بوجه خاص، والنص عموما، واعتبار أن أي نص هو نسبي وتاريخي ومحكوم بظروف كتابته، بل إن بعضهم لا يتردد أن يناقش القرآن الكريم وبقية الكتب السماوية بهذا المنهج، ويستميتون في التمسك بحتمية التخلي عن قدسية النصوص قرآنا وتوراة وإنجيلا وأحاديث نبوية ومزامير! ثم تجدهم هم أشد خلق الله الآن صراخًا وعويلًا وصخبًا ضد أي اقتراب من قدسية نص وضعي وضعه بعض الأفراد، كان معظمهم مختلفًا على اختياره وعلى ثقافته وعلى كفاءته، وبحكم أنه لا أحد يحوز الكمال لا النسبي ولا المطلق!

لقد استل بعضهم خناجر على هيئة أقلام، وقذائف في صورة كلام، وتصايحوا متنادين لجمع الصفوف وسل السيوف، ولم يبق إلا إهدار دم وإزهاق روح كل من يجرؤ على مجرد طرح أمر تعديل الدستور للمناقشة! لكي تتناوبه الخناجر وتمزقه القذائف.

ومن هنا أبدأ بالصياح "دستور يا أسيادنا"، كما كانت كودية الزار تصيح معتذرة لأسيادها العفاريت، كي لا يؤاخذوا جاهلًا عاب في الزار أو في الجن.. وأيضا كما كان الغلبان راكب الركوبة- حمارا كانت أم أتانا أو حتى جاموسة- يقفز من عليها نزولا وينحني ليخلع "بلغته" إذا كان لديه- بلغة: أي لا مؤاخذة مداس- ويرفع يده عاليًا ومعها صوته "دستور يا أسيادي"، موجها النداء للأكابر الجالسين على الكراسي أو الكنب أمام الدوار الكبير! فدستور يا أسيادي عبدة النص الدستوري.. تعالوا نناقشها قطعة قطعة.. أو "حتة.. حتة"!

هل الدستور نص سماوي مقدس؟ وهل دستورنا مرن أم جامد؟! وهل الظروف التي وضع فيها الدستور وكذلك طريقة اختيار لجنة وضعه، وكذلك شخصيات اللجنة لا تحتمل الاختلاف ولا المناقشة؟ وهل الظروف تغيرت أم لم تتغير؟ وهل ما يحيط بالوطن من متغيرات- ولن أقول مخاطر حتى لا تستمر تهمة اتخاذ المخاطر شماعة للاستبداد- يستدعي مراجعة كل ما من شأنه التأثير على قدرتنا كشعب ودولة على التعامل مع هذه المتغيرات؟!

الإجابة معلومة، وفيها أن الدساتير ليست نصوصًا سماوية مقدسة، لأنه حتى المقدس السماوي وجد في صفوف مقدسي النص الوضعي من ينادي بتجميده ونقده والاختلاف معه، بل وتعطيله!

وإذا كان ذلك كذلك، فإن هناك العديد من المسوغات التي تبيح للمجتمع المصري أن يراجع الوثيقة الأم الأساسية مراجعة موزونة تستجيب للضرورات التي هي في شرع ربنا تبيح المحظورات!

لقد كنت وما زلت أتصور أن حكاية المدة الرئاسية في ظل المتغير الجوهري المهم الذي طرأ على موقع الرئاسة، وأعني به أن الجالس فيه الآن إنسان لديه عزوف عن التأبيد في الكرسي وعن الأبهة وعن الرحرحة في ميت أبو الكوم أو في شرم الشيخ.. إنسان يعرف طبيعة المهمة التي تحمّلها ويسابق الزمن ويقاوم المعوقات بكل ما أوتي من طاقة، هي حكاية لا ينبغي أن تشتعل عليها المعارك، ناهيك عن حجم التحديات وحجم ما أنجز، وعندها وببساطة فمن الوارد أو من المقبول القول اتركوه يستكمل في المدى الزمني المناسب، والمهم أن يستمر الإنجاز بالوتائر نفسها.

ثم إنني لا أتردد في أن أشير إلى أن كثيرا من الدول، وفي حالات الحرب والتهديدات الخطيرة التي تتهدد وجودها، بما في ذلك الكوارث والحروب الأهلية، تتجه من فورها لتعطيل العمل بالدستور وسن قوانين جديدة صارمة وقاطعة تجعل من المواجهة أمرا لا يحتمل لجاجة ولا ينتظر تنطعا.

وعود على بدء، فإن هذه السطور تكتب مساء الثلاثاء لتنشر صباح الخميس، ومن الوارد أن يحدث متغير ما في مسار الاتجاه للتعديل، ومع ذلك وحتى تتضح الرؤية تماما ونعرف ما الذي سيتم، ما المانع أن يتوقف أسيادنا مقدسو النص الوضعي، ولو قليلا لالتقاط أنفاسهم وابتلاع ريقهم، ليقوم حوار وطني موضوعي ومحترم لا يعتمد لغة الردح والتلقيح ولا نبرة الوعيد بالنهاية المحتومة، لأننا أمام تعديل لا يستهدف إطالة فترة بقاء شخص في كرسي الرئاسة، لأنه "مرتاح كده"، ولكننا إزاء تعديل يعطي الفرصة لمزيد من الإنجاز بنفس الوتائر.. يعني مزيدًا من العمل والإرهاق ومسابقة الزمن.. ومرة ثالثة "دستور يا أسيادنا"!

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 14 فبراير 2019.

No comments:

Post a Comment