Wednesday 27 February 2019

من دفتر الذاكرة.. الإعدام



الشيء بالشيء يذكر.. إذ وجدت شريط ما عاينته ذات حبسة في سجن الاستئناف يمضي أمام عيني ويمثل في ذهني وكأنني أحياه مجددا، بعدما امتد "الجدل القاهري" سليل "الجدل البيزنطي" إلى مساحة لم يتخيل أحد أن يمتد إليها، وهي الحكم القضائي النهائي البات من محكمة النقض بإعدام قتلة الشهيد المستشار هشام بركات نائب عام مصر، وتنفيذ الحكم وفق القانون.

لجاجة سافلة حول التحقيقات والمحاكمات والقوانين، وهي سافلة لأنها تريده مجتمعا يفلت فيه من العقاب من يمتلك الجرأة الوقحة على تعاليم الدين فيطوعها لهواه.. ثم ينصب من نفسه سلطة ادعاء وسلطة إصدار حكم وسلطة تنفيذ ويقدم على قتل النفس الإنسانية بوسائل يصل ضررها إلى آخرين، غير من تم استهدافه، إذ يؤدي انفجار سيارة أو تفجير انتحاري أو دراجة نارية إلى تحطيم وتدمير وقتل كل ما ومن وجد في دائرة التفجير. وإذا كان ثمة عقاب فإن السفلة يستكملون لجاجتهم برفض عقوبة الإعدام، لأنها في نظرهم غير إنسانية أما ما فعله المجرمون فهو إنساني!

ولا أريد أن أستطرد في هذا السياق، لأنه يحتاج كتابة من نوع خاص وأترك تفسير خصوصيته لبديهة من يعرفون الكاتب.. أي العبد لله.

وأنتقل إلى ذلك الشيء الذي عاينته في سجن الاستئناف الواقع في وسط القاهرة في باب الخلق خلف مديرية أمن القاهرة والمحكمة، ويطل من جهته الخلفية على شارع درب سعادة المشهور بمحلات النجارة ومخازن "مغالق" الخشب، وقد بني عام 1901 وفيه تقع غرفة تنفيذ أحكام الإعدام على يسار مدخل العنبر الداخلي، حيث يتوزع المدخل إلى ممرين أحدهما يمين الداخل وفيه دورات مياه وغرف مخصصة لحالات بعينها كالمساجين الذين تصيبهم حالات هياج عنيف، أما الثاني فعلى يسار الداخل وفي نهايته يوجد مدخل الإعدام.. البئر التي تسقط فيها الجثة بعد فتح الطبلية وفوق الطبلية العارضة الخشبية التي يتدلى منها الحبل الغليظ الذي يصنع خصيصا للمهمة وله عمر افتراضي وفي الركن كرسي يستريح عليه "عشماوي" أو "باشجاويش – رقيب أول" الإعدام، وربما "صول – مساعد" وقد عاصرت الباشجاويش عبد اللطيف زنفل "عشماوي" تلك الفترة!

في الطابق الثاني تتوزع الزنازين في صفين متواجهين تفصلهما مسافة من عدة أمتار فيها السلم الحديدي الموصل بين الطوابق، ويطل عليها الممر الواقع أمام صفي الزنازين، وإلى جوار السلم الصاعد لهذا الطابق توجد على الشمال غرفة صغيرة هي مكتب الضابط المناوب الذي عادة ما يكون شابا ذا رتبة لا تتجاوز الملازم أول أو النقيب.. يرتدي أوفرول كاكي وعادة ما يمشي ومن ورائه صف ضابط أو اثنان أحدهما يحمل العصا الخيزران الغليظة، ويقوم إذا اقتضى الأمر بتثبيت المسجون الذي تقرر أن ينال عقابا بالمد على قدميه!

في الزنازين المطلة على مديرية الأمن توجد عدة غرف للمخصوص، أي للمحكومين بالإعداد، وعليها حراسة مستمرة 24 ساعة ولهم طعام مخصوص وفسحة مخصوصة وزيارات مخصوصة، وكل ذلك بعيدا عن بقية المساجين وكأن المخصوص في تلك الفترة يبدأ من زنزانة 28 وما بعدها إلى زنزانة 32 تقريبا، وكان الذين ينتظرون التنفيذ على ما أتذكر أحمد سفاح الجيزة وعماد أبو رقيق الشاب الذي وضع قنبلة في مجمع التحرير وصلاح العمري القناص الفلسطيني التابع للجبهة الشعبية وسمير التميمي الفلسطيني الجاسوس وسمير وليم الجاسوس المصري الأشهر.. وقد شاء حظي العاثر أن أعاين إعدام ثلاثة هم أحمد السفاح وصلاح العمري وعماد أبو رقيق.. وكان سمير وليم الجاسوس المصري الذي كان مقيما في ألمانيا يؤكد دوما أنه لن يعدم!

ويفترض أن لا يعرف من عليه الدور في الإعداد أن الوقت حان، ولكن الأمر يذاع ويشيع عبر بقية المساجين، الذين يتهامسون "بكره فيه سلخانة.. فلان اللي في زنزانة كذا".. وعند منتصف الليل يبدأ نزح المياه من بئر المشنقة، وهي مياه جوفية حيث جدران السجن مشبعة بالرطوبة الكثيفة حتى الدور الثالث!

وعند الصباح لا تفتح أبواب الزنازين على المسجونين كالعادة لينزلوا لدروات المياه، وليعلو صوت المفتاح من زنزانة واحدة هي التي فيها من سيتم التنفيذ فيه، والذي يكون قد وصل إليه الخبر من همسات الآخرين، إضافة إلى أن البعض يتطوع بإرسال طعام وشراب وسجائر له دون مناسبة، فيدرك مباشرة أن العاطفة الإنسانية هي من وراء هذا الكرم وبمنطق "ثواب.. يمكن نفسه في اللقمة أو الفاكهة دي"!

وعند الثامنة صباحا ينزل صاحبنا مكبلا بردائه الأحمر، ويمضي إلى أن يقف أمام اللجنة، حيث وكيل النيابة الذي صدر الحكم في دائرته.. وحيث الواعظ الديني الشيخ أو القسيس، وحيث رجال الشرطة.. وبعد اللازم إجرائيا يتقدم عشماوي بالطاقية السوداء وتسحب اليد الحديدية الرأسية بجوار الطبلية التي تنفتح دفتاها ليهوى إلى البئر، وينزل الطبيب الشرعي ليجس النبض ويتأكد من الموت!

مرة واحدة في الفترة التي عاصرتها فتحت أبواب الزنازين، ليتدفق المساجين لرؤية جثمان عماد أبو رقيق وهو متدل في البئر.. وكنت من الحماقة لدرجة أنني غلبني الفضول وظللت شهورا لا أذوق طعم النوم إلا بصعوبة بالغة!.. ربما يكون للسرد بقية.

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 27 فبراير 2019.

No comments:

Post a Comment