Friday 22 February 2019

المراجعة الشاملة.. الكرباج والإعدام!





أواصل النبش في الجذور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أدت إلى أن يتخذ الوجدان شبه الجمعي المصري من جمال عبد الناصر- الشخص والفكرة والحلم- مرجعًا يقيس عليه ما يتخذ من سياسات عامة، ويرفع صورته عند كل منعطف كبير، وأعلم علم اليقين أن الميليشيات أو التشكيلات العصابية "من العصاب النفسي والعصابة الإجرامية معا"– التي تتكون بين مرحلة وأخرى وكلما انحسرت إحداها حلت محلها أخرى مثلها- لن يتوقفوا عن استخدام كل الأسلحة المتاحة لهم لاغتيال شخصية الرجل وتحطيم صورته وتشويه الحلم الذي عبّر عنه. وأعلم يقينا أيضًا أن المعادلة داخل "المصري اليوم" المؤسسة تقوم على توظيف أقصى قدر من طاقات الكتابة في مساحة الرأي ومساحات أخرى لأداء المهمة الأساسية، وهي مرة أخرى اغتيال شخصية ناصر وتحطيم صورته وتشويه الحلم الذي عبر عنه، وأن الإبقاء على صوت أو صوتين مخالفين هو من باب إبراء الذمة الليبرالية، إذا جاز التعبير، وكي يبقى الرد العملي جاهزًا: "أبدًا.. ها هو فلان وفلان يكتبان ولا يصادرهما أحد"!

ورغم تيقني من ذلك، ومعه العتاب واللوم من كثيرين على الاستمرار في مناخ كهذا، وأنه سيحسب على أمثالي أنهم ساهموا في تجميل وجه ذلك الوضع وإظهاره أنه حقًا ليبرالي يؤمن بتعدد الآراء، إلا أنني حريص على الاستمرار، ليس لإبراء الذمة الوطنية والقومية فقط وإنما لإيماني بأنه ربما تقع عين قارئ على ما يقترفه البعض من كتابات، ثم تنتقل العين نفسها إلى ما أكتبه، فيكون للحوار الداخلي في عقل القارئ مجال!

وقبل أن أستأنف عملية النبش في تلك الجذور أود أن أشير إلى سياق تاريخي، ربما يشبه بدرجة أو أخرى السياق المعاصر.. إنه السياق الذي كانت أطرافه الأمويين ومن يناصرهم ممن أضيرت أوضاعهم بسبب الرسالة المحمدية، وعلى الجانب الآخر آل البيت أبناء الإمام علي من فاطمة الزهراء وعلى رأسهم الإمام الحسين.. إذ لم ينس نسل أبي سفيان أنهم سلالة الطلقاء، وأنهم سلالة كبار القوم وأثراهم، وأن تلك الرسالة ساوت بل وضعت من كانوا عبيدًا أرقاء كبلال وسلمان وصهيب ومن كانوا فقراء كأبي ذر في ذروة أعلى وأعظم من أبي سفيان ونسله، وعندما حانت الفرصة وتمكن أبناء الطلقاء من السلطة وصل الأمر إلى إنكار الرسالة ذاتها على لسان شاعرهم عبد الله بن الزبعرى، وقيل إن قائلها هو يزيد بن معاوية نفسه، ومطلعها:

ليت أشياخي ببدر شهدوا..
جزع الخزرج من وقع الأسل.
إلى أن يقول:
لعبت هاشم بالملك فلا..
خبر جاء ولا وحي نزل.

وقد رددها يزيد عندما وضعت رأس الحسين أمامه بعد كربلاء.. وبعدها كان القرار الأموي الرسمي الإجباري لكل من يعتلي المنبر لخطبة الجمعة أو العيدين هو أن يتم سب علي وأبنائه وذريته.. ولم يفطنوا إلى مفارقة عجيبة، هي أن الصلاة نفسها لا تصح إلا بالصلاة على محمد وآله، كما هو في التحيات!

وظل الأمويون يلعنون عليًا وآله طوال حكمهم الذي دام أقل من تسعين عامًا.. وحتى عندما جاء العباسيون وفعلوا ما فعلوه بقبور الحكام الأمويين لم يتوقف التهجم على ذرية عليّ، خاصة ذرية الحسين.. ومع ذلك ورغمه لم يؤد سب الحسين وذريته واغتيال شخصيته ومذهبه وثورته إلى نفيهم من الوجدان الجمعي الإسلامي، وفي مقدمته الوجدان المصري، إلى يومنا هذا.. يعني وبالبلدي ومن الآخر لن تتمكن الميليشيا إياها من منع تأثير ناصر والحلم الذي نشده على وجدان المصريين.. والبديل الوحيد هو منع إعادة إنتاج الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي أدت إلى ترسخ ذلك التأثير.

وأعود إلى استكمال النبش التاريخي، حيث ذكرت طرفًا من مأساة السخرة التي فرضت على الفلاحين المصريين.. وأذكر اليوم أنه لا سخرة بغير كرباج.. ففي سنة 1245 هجرية الموافقة حوالي 1830 ميلادية صدر قانون الفلاحة، وفيه العقوبات التالية: خمسين كرباجًا لمن يهرب من الفلاحين أو المشايخ- "منصب إداري وليس عالم دين"– من بلده إلى أخرى، وإذا هرب القائمقام أو الشيخ منفردًا أو مع غيره من الفلاحين عند طلب المال ففي المرة الأولى يضرب القائمقام ثلاثمائة كرباج، وفي الثانية خمسمائة كرباج، أما الشيخ فيضرب مائتي كرباج في الأولى وفي الثانية ثلاثمائة كرباج.

وقد تفشت ظاهرة الهرب من الشفالك- وهي الأرض التي منحها محمد علي لأفراد أسرته وكبار حاشيته- فالفلاحون الذين كانوا يتعرضون للتعذيب وسوء المعاملة من كل جانب كانوا يهربون من الأرض ثم يعادون إليها بالقوة، ويقول بارنت قنصل بريطانيا في مصر 1841– 1846: "إن عدد الأسر التي هربت من محافظة البحيرة بلغت اثني عشر ألف أسرة، وأن عددا من الفلاحين قد أعدموا لأنهم حاولوا الهرب".

وبعد ذلك مازالوا يتساءلون لماذا بقي عبد الناصر في وجدان الفلاحين؟! وللحديث صلة.

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 22 فبراير 2019.

No comments:

Post a Comment