Tuesday 12 February 2019

رصيد مصر في إفريقيا





في مصر القديمة، وقبل ظهور علوم الجغرافيا السياسية والاستراتيجية، حدد القادة المصريون أمن وطنهم بأنه يمتد من قرن الأرض "القرن الإفريقي" إلى منابع المياه المعكوسة أي منابع دجلة والفرات اللذين يجريان من الشمال إلى الجنوب عكس جريان النيل من الجنوب للشمال، وكانت علاقات مصر بقارتها الإفريقية ذات أبعاد متعددة اقتصادية وأمنية كما أشرت، وفي العصر الحديث توغلت مصر جنوبًا باتجاه منابع النيل والقرن الإفريقي، وأصبحت تسيطر بحق الغزو أو الفتح على مناطق واسعة معلومة لمن يهتمون بفترة الخديو إسماعيل، وبقي حق الفتح هو الأساس الذي ضمت به مصر تلك المناطق. ولم يعد ممكنا بعد ثورة يوليو 1952 وما أعلنته من مبادئ وسياسات تؤكد إيمان مصر بحق الشعوب في تقرير مصيرها وانتهاء أي شرعية تعتمد على الاحتلال أو الغزو أو الفتح؛ أن يبقى السودان تابعا لمصر.. وهنا أستأذن في جملة اعتراضية، هي أن العباقرة الذين يطالبون بتغيير العلم الوطني المصري الحالي والعودة لعلم الهلال والثلاث نجوم يتناسون عمدًا، أو بالأحرى يجهلون مؤكدا، أن العلم الأخضر ذا الهلال الأبيض والنجوم الثلاث البيضاء خماسية الأطراف كانت ألوانه تنصرف إلى أن الاخضر يرمز للوادي والدلتا والهلال للإسلام والنجوم الثلاثة إلى مصر والنوبة والسودان ومنه دارفور وكردفان! ومن الوارد أن يحتج إخوتنا في السودان– والعملية لا ينقصها تأجيج أو تلكيك– على عودة ما يرمز إلى تبعية السودان لمصر! وفي هذا تراث طويل من السلبيات، أشك كثيرًا أن أولئك العباقرة يعرفونه أيضًا.

ومع تطور العلاقة، وانطلاق حركات التحرر الوطني الإفريقية، وسعي الشعوب للحرية والاستقلال، كانت المحروسة بقيادة جمال عبد الناصر هي السند والموئل والداعم لحركات التحرر الإفريقية، وبات الدور المصري في القارة دورًا قياديًا رائدًا بقيت آثاره وفاعليته إلى الآن، رغم السنين الكالحة الكئيبة التي تخلت فيها مصر عن دورها، وتركت الميدان خاليا للنفوذ الفرانكفوني والأمريكي والصهيوني.. وما زال في العديد من عواصم ومدن دول القارة شوارع وميادين تحمل اسم جمال عبد الناصر، وما زال هناك قادة أفارقة يذكرون الرجل ودوره، ولا أنسى أبدًا أن القائد الفذ نيلسون مانديللا عندما زار مصر بعد انتصار شعبه في نضاله ضد الاستعمار الاستيطاني الأوروبي، سئل عن أول أمر يحب أن يفعله في مصر، فأجاب من فوره أنه سيزور ضريح جمال عبد الناصر ويلتقي محمد فائق.. وهناك وقف يكلم الثاوي في تراب مصر، ويتأسف له أن الزيارة جاءت متأخرة عن موعدها عشرين عاما! وما أستهدفه من هذه الإشارات هو أن لمصر رصيدا ذهبيا كبيرا في قارتها، وفي آسيا وأمريكا اللاتينية، تم إيداعه في الحقبة الناصرية، ولا يمكن التفريط فيه ولا التقليل من شأن من راكموه بجهود جبارة يعرفها أبناء إفريقيا، وكثير من دول آسيا وأمريكا اللاتينية.. وهو رصيد يتعمد المأفونون الغطرشة عليه وتجاهله والتقليل من شأنه عندما يركزون وبمنهج حسابات البقالة على قراءتهم للتاريخ.

إن تسلم مصر لرئاسة الاتحاد الإفريقي لا ينطلق من فراغ ولا يسير نحو مجهول، فهي كما أسلفت حلقة متممة لما بدأ منذ مطلع الخمسينيات، وهي كما هو واضح من التصريحات الصادرة عن الرئاسة في مصر ستكون منصة انطلاق إفريقي شامل للتكامل ولتعظيم الموارد ولحل المشكلات المزمنة وغيرها من الأهداف، وللحق فإن الرئيس السيسي وفريق العمل الذي يعاونه في السياسة الخارجية نجح بامتياز حتى الآن في ترميم الصدوع التي نتجت عن فترة الإهمال الطويلة لإفريقيا في عهد مبارك، وفي مد الجسور السياسية والاقتصادية والثقافية مع دول القارة، وأضحت القاهرة ثانية مقصدًا مهمًا لقادة الدول الإفريقية، وهو نجاح تتضافر معه في ضفيرة واحدة شبكة العلاقات القوية مع دول الشرق، كالهند والصين واليابان وفيتنام وغيرها، ومع دول أوروبا وأمريكا الجنوبية.

ومن البديهي أن النجاح السياسي لا ينفصل عن الأبعاد الاقتصادية والثقافية، ونعرف أن هناك شخصيات مصرية خارج النطاق الحكومي، تلعب دورًا مهمًا في تأسيس وتنمية علاقات اقتصادية مصرية- إفريقية، وبقي أن يتم التركيز الآن ومستقبلًا على البعدين الثقافي والإعلامي إذا جاز الفصل بين الإعلام والثقافة.. ولا أعلم إذا كانت الإذاعات الموجهة باللغات واللهجات الإفريقية، التي كانت تبث من القاهرة، حتى أواخر الستينيات مستمرة أم لا، وإذا كانت مستمرة فهل تم تطوير مضمون إرسالها بما يتناسب مع التغيير الذي حدث في دول القارة بعد التحرر ونيل الاستقلال، أم لا، أم أنها أوقفت تمامًا؟!

لقد ظل إخوتنا في السودان- على سبيل المثال- يشتكون وأحيانًا يسخرون من جهل النخب المصرية بالتكوين السوداني، حضاريًا وثقافيًا وتاريخيًا وجغرافيًا.. ناهيك عن الميراث الثقيل في هذا المضمار.. ميراث النخاسة وميراث ربط لون البشرة السوداء بمهن وأعمال معينة، معظمها خدمي متدنٍ، بل إن كثيرين من أهل الكتابة يكتبون عن السودان بصيغة المؤنث، وكذلك اليمن ولبنان والعراق، يتعاملون معها مؤنثة، ما يثير سخرية شعوب تلك الدول.

غاية القول إن دور مصر في قارتها ليس عملية آلية ميكانيكية، ولكنه حركة يجب أن تكون مستمرة وذات مضمون متطور، وإلا فإنه دور ضامر وراكد، ولأن مصر تولت رئاسة الاتحاد فالعبء أضحى مضاعفًا؛ لنواكب حركة الرئيس على كل المستويات.

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 12 فبراير 2019.

No comments:

Post a Comment