Thursday 21 February 2019

العلاقات العربية- الأوروبية .. تغيير المناهج




لقاء القمة يعني اجتماع الأنداد من أعلى مستوى في الدول المشاركة، بصرف النظر عن عدد السكان، أو حجم الثروة ومقدار الدخل، وقد عرفنا قممًا عربية للدول العربية.. وإفريقية للدول الإفريقية.. وإسلامية للدول الإسلامية.. ثم ولأول مرة قمة عربية- أوروبية على أرض مصر، الأمر الذي له دلالات حضارية وثقافية وتاريخية، عدا عن الدلالات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية.

وبديهي أنه لا يمكن فهم الأحداث الكبرى في المسار البشري، إلا من خلال قراءة الخرائط التي ليست تقاطعات لخطوط الطول والعرض، وبيانًا لتوزعات اليابسة والماء ولا بقية فروع الجغرافيا؛ وإنما هي مع ذلك مفتاح لفهم العلاقات الدولية عبر مراحل التاريخ، ومن قبله الإنثروبولوجيا، فمن الخريطة ندرك أن الحوض الحضاري الذي يشمل مهاد الدورات الحضارية منذ القدم، يعتبر في غالبه حوضًا متوسطيًا إذا وسعنا الدائرة المتوسطية لتضم مع الدول المطلة على البحر المتوسط عمقًا أبعد، يمتد جنوبًا إلى السودان والقرن الإفريقي، وشرقًا إلى العراق والجزيرة العربية.. لنجد تمثيلًا قويًا لحضارات قديمة مصرية وفينيقية وبابلية وآشورية ونبطية وسبأية وإفريقية مع الهللينية والهللينستية والرومانية والمسيحية، ومع تلك القمة يتبلور للمرة الأولى- وعلى مستوى جماعي- ما كان متناثرًا بشكل ثنائي عند انعقاد قمم بين دولتين، إحداهما عربية والأخرى أوروبية تناقش أمورًا أو شؤونًا سياسية واقتصادية وعسكرية واستراتيجية، وليتحقق التفاهم بين المضمون الشامل للأمن الأوروبي ومثيله العربي بالمفهوم الواسع الذي يتجاوز الجانب العسكري والاستخباراتي والشرطي إلى بقية جوانب الحياة، بما في ذلك الثقافة والعقائد الدينية.

لقد عرف التاريخ مراحل كان فيها الجانب الأوروبي هو الغالب- كغازٍ ومحتل- منذ الحروب الصليبية في العصور الوسطى، وبعدها بدايات حركة الاستعمار الحديث بالطلعات البرتغالية والإسبانية في القرن السادس عشر، ثم تعاظم الدور البريطاني والفرنسي في القرن التاسع عشر، وما ارتبط به من غزو واحتلال لمعظم البلاد العربية، الأمر الذي أدى إلى فجوات سحيقة بين الطرفين حتى ظهر دور القطب الأمريكي كاستعمار جديد، ودخل العالم في حربين عالميتين أعقبتهما حرب باردة، وبالتوازي مع هذا المسار الغربي كان ثمة مسار آخر مضى فيه الجانب العربي، وهو المقاومة من أجل الاستقلال والتحرر.

وما إن انتهت الحرب العالمية الثانية حتى اشتد عود حركة التحرر الوطني العربية، وكانت مصر هي القائد في ذلك المضمار، وشكلت قضية فلسطين محورًا مركزيًا في ذلك الصراع، حيث كانت بريطانيا ومن بعدها ومعها الولايات المتحدة أكبر داعم للهجرات الصهيونية إلى فلسطين ثم تأسيس الدولة الصهيونية ودعمها، ليتصاعد الصدام بين الجانبين العربي والغربي، وشهدت المنطقة احتدام الأمر ليصل إلى القتال في 1956 و1967 و1973.

وجرت في الأنهار مياه كثيرة لا مجال للتفصيل فيها، بما في ذلك الاتجاه الغربي الأورو أمريكي إلى الاعتماد على خلق وإشعال الصراعات بين دول المنطقة ذاتها لمزيد من تفتيتها، وكان الجانب الديني هو السلاح المستخدم بكثافة، وهو أمر لا تعود بدايته ولا التفكير فيه إلى الفترة الحالية وإنما تعود إلى المنهج البريطاني "فرق تسد"، الذي سعى لإشعال الفتن الطائفية، وعرفت دولة كمصر هذه الظاهرة، وهي تحت الاحتلال البريطاني منذ مؤتمر 1910 الذي رعاه اللورد كرومر، ولم يكن تأسيس دولة إسرائيل كدولة لأقلية دينية توراتية بمعزل عن هذا السياق الذي نتحدث فيه، ثم كان الاتجاه لتأسيس أحلاف على أساس ديني كالحلف الإسلامي وحلف بغداد، وبعده الاتجاه لإشعال الصراع السني- الشيعي، والصراع الإسلامي- المسيحي، وكلها أمور ظهرت فيها الأصابع الأوروبية- الأمريكية- الإسرائيلية حتى حدث وانتقلت النيران إلى أوروبا والولايات المتحدة ذاتيهما، وعندئذ أدرك الجميع أنه لا بديل عن تغيير المسار جملة وتفصيلًا، ولا بديل عن التعاون كأساس لمرحلة جديدة مغايرة.

لقد بوغتت أوروبا بأمرين خطيرين هما الإرهاب والهجرة، واكتشفت- قبل غيرها- أن مجتمعاتها ليست بمنجاة من التهديدات الفعلية والمخاطر الحقيقية، التي تعرضت لها الدول العربية واتجه التفكير إلى منهج مؤداه السعي لتوطين الاتجاهات الأصولية الدينية في المنطقة العربية، التي هي مهد ولادتها، بحيث إنه إذا تحقق قيام دول محكومة بتنظيمات تلك الأصوليات فإن هذه التنظيمات ستكتفي بذلك، وسوف تستنفد طاقاتها العدوانية في صراعاتها الذاتية، أي بين التنظيمات ذاتها وبين التنظيمات وبين بقية قوى المجتمع، وتهبط المنطقة في المستنقع الديني، ولا تخرج منه خلال مئات السنين المقبلة، وكان ما يسمى "الربيع العربي"، وكان ما عشناه وما زلنا نعايشه، وكانت المفاجأة الكبرى هي إفلات مصر من ذلك المصير، وليس إفلاتها ونجاتها فقط، ولكنها أثبتت وجود القدرة على التجاوز والانطلاق في البناء الشامل.

ومن المؤكد أن التاريخ سجل بأحرف من نور الدور الذي قامت وتقوم به القيادة المصرية، ممثلة في الرئيس السيسي على محورين، الأول: هو الاستقرار والأمن والبناء المتسارع في مصر، بما في ذلك سياستها الخارجية المتوازنة المبدعة، والثاني: هو الخطاب السياسي الذي وجهه الرئيس ويوجهه للعالم كله، خاصة أوروبا حول وحدة المصير المشترك بيننا وبينهم، الأمر الذي يستدعي التعاون المطلق في معادلة تحقيق الأمن الشامل، الذي- وكما أسلفت- يتجاوز الجانب العسكري والشرطي والاستخباراتي إلى الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وتأكدت أوروبا من أنها لن تستطيع مواجهة موجات الإرهاب الأصولي إلا بتعظيم الخطاب الدعوي الوسطي المتزن، الذي دعت إليه مصر وتنهض به مؤسساتها الدعوية.

من هنا كانت القمة العربية- الأوروبية وعلى أرض مصر تتويجًا للمنهج الذي ثبتت صحته، ويثبت نجاحه يومًا بعد يوم.. منهج التعاون والمواجهة الشاملة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، الذي لن يكتمل نجاحه إلا بمزيد من البناء والإنجاز في دول المنطقة، لكي تنتهي ثلاثية "الفقر- الجهل- الإرهاب".
نشرت في مجلة الأهرام العربي بتاريخ 21 فبراير 2019.

No comments:

Post a Comment