Tuesday 5 February 2019

عندما أغلق باب الاجتهاد





شاع أن الجدل البيزنطي كان من حول أيهما أسبق الدجاجة أم البيضة.. وشاع أيضا أنه كان من حول جنس الملائكة إناث هم أم ذكور؟!

ويقول المؤرخون إنه حدث أثناء انعقاد أحد المجامع المسكونية، وكانت القضية المطروحة هي ما احتدم فيه النقاش وتباين الاختلاف لحد تبادل الاتهامات بالهرطقة من حول طبيعة السيد المسيح له المجد، هل هي واحدة إلهية أم هي واحدة بشرية أم هما طبيعتان إلهية وبشرية، وأيضا من حول السيدة العذراء هل هي أم له من الناحية اللاهوتية أم فقط من الناحية البشرية ومن ثم هل تكون لها منزلة التقديس أم لا؟! ويصف أحد مؤرخي تلك الفترة في مطلع العصور الوسطى الحال في المدينة بقوله: كنت تذهب لبائع الخبز تسأله خبزا فلا يعطيك ويسألك هل المسيح إله أم إنسان، وكنت تشير لساقي الماء أن يروي ظمأك فيبادرك هل العذراء أم للمسيح من ناحية اللاهوت أم لا؟!.. وأظن أن أحد ملامح الحياة في القاهرة وعلى مدار حوالي نصف قرن هو ما يمكن أن نسميه "الجدل القاهري"، على وزن "الجدل البيزنطي"، حيث ظلت الأسئلة وتبادل الاتهامات بالهرطقة الوطنية قائمة حول ثورة يوليو وعبد الناصر والتحول الاشتراكي والتأميم وغيره، وقد تفوقنا على البيزنطيين الذين اقتصرت مدة جدلهم على الفترة الزمنية التي انعقد فيها المجمع المسكوني "المؤتمر العالمي لقادة الكنائس"، فيما نحن نستهلك عقودا متوالية منذ سنة 1970 إلى الآن!

وأبادر من باب "التطهر الاعترافي" أنني لم أفلت من الانخراط في هذا الجدل القاهري، رغم حرصي على أن أبتعد متجها إلى ما أظنه قضايا مستقبلية أو أراه أولى بالاهتمام، وربما آن الأوان لتركيز الجهد على ما أراه مهما في حياتنا السياسية العامة، اللهم إلا إذا تفاقمت فداحة افتراء البعض على حقائق التاريخ، فعندها يصبح الصمت سكوتا من شيطان أخرس.

لقد كتب نيوتن مقالا نشر الأحد- أي قبل أمس الأول- أظنه يحمل من الصدق والموضوعية قدراً هائلا، إذ ميز بين المقاصد وبين الوسائل أو الأدوات في مشروع جمال عبد الناصر، ووضع النقاط على الحروف فيما يتصل بمقاصد ذلك المشروع وكلها لا يختلف عاقل حولها، ولكن الوسائل والأدوات هي ما يجب مناقشته وما يجب تقييمه والاستفادة من الدروس وعدم إعادة إنتاج السلبيات.

والحقيقة التي لا بأس من ذكرها هي أن من وراء استمرار طرق البعض أو "دقهم" على هذا الموضوع مرارا وتكرارا وبغير توقف، هو أن تصل الرسالة إلى أصحاب القرار الاقتصادي والسياسي في مصر، لأن ذلك البعض يرى فيما يجري الآن وخاصة على الصعيد الاقتصادي إعادة تدوير للنهج الناصري مع فوارق بسيطة، ومن ثم فإن النتيجة ستكون بالتالي مشابهة، إن لم تكن أفدح من السلبيات التي يرونها سببا في الإخفاق.

وفي ظني أن إعادة التدوير ليست مقتصرة على أصحاب القرار، وإنما هي في الأصل متصلة بالتكوينات الرأسمالية المصرية التي لم تملك في معظمها الشجاعة ولا الوعي بنقد نفسها تاريخيا منذ نشأتها إلى الآن، ولا بتصويب أدواتها والإفصاح الكامل الصادق عن مقاصدها وأهدافها، والأثمان الاجتماعية التي يمكن أن يدفعها المجتمع من أجل تحقيق مقاصد الرأسماليين المصريين.. ذلك أنني أعتقد – ولست أظن – أن ما يبدو أنه إصرار على إعادة تدوير سياسات وأدوات ثورة يوليو، إنما هو ناتج عن إصرار أكثر ضراوة من الرأسمالية المصرية على عدم تجديد أدواتها وتنقيح مقاصدها، هذه واحدة أما الثانية فهي أن التاريخ يعلمنا أنه عندما أغلق باب الاجتهاد الفقهي حوالي القرن الرابع الهجري لم تتعطل مسيرة تطوير الفقه ومواكبته للمتغيرات المختلفة وفقط، وإنما انعكس الأمر على بقية الجوانب الفكرية والثقافية والاجتماعية، وأخذت عوامل الانحطاط تتراكم ليتبدد الثراء الفلسفي والفكري والأدبي والعلمي، ويتكرس الظلام الذي اشتدت عتمته مع انتقال الخلافة إلى العثمانيين!.. ومن ثم فإن الاجتهاد في تجديد كل جوانب الحياة يعد فريضة عقلية وحضارية على كل من يملك عقلا ويحوز سلطة القرار.

تعالوا بنا نعيد قراءة مسار الرأسمالية المصرية قراءة نقدية جادة، توضح للناس ماذا كانت وبقيت مقاصد أولئك الرأسماليين، وهل كانت وسائلهم وأدواتهم سليمة على مر الحقب أم أنها كانت دوما متسقة مع مقصدهم الرئيسي؟!

وتعالوا بنا نقول لأصحاب القرار لقد أعدت الرأسمالية المصرية ممثلة في رموزها المعاصرين برنامجا محددا للنهوض الاقتصادي والاجتماعي، ووضعت الضوابط التي تحول بين تغول المصالح الفردية على المصالح الاجتماعية الواسعة، ولنترك لهذه الرأسمالية المجال للتطبيق لتحقيق هذا النهوض الشامل، وبعدها نتحاسب!

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 5 فبراير 2019.

No comments:

Post a Comment