Tuesday 19 February 2019

عن آداب الاشتباك





فاصل ثم أواصل.. فالسياق الذي فرض ويفرض نفسه على معظم إن لم يكن كل من يكتبون في مجال الرأي بالصحف والدوريات، هو السياق السياسي، سواء كان التناول بشكل مباشر أو غير مباشر، فالكلام في النهاية "متعاص" سياسة كما يقول التعبير العامي، وقد يلجأ البعض لتغيير الأسلوب فيتجه إلى ما يظن أنه خفة ظل وسخرية، فإذا به مسخ "متعاص" قلة أدب!.. أما الفاصل فقد لجأت أكثر من مرة إلى فواصل من نوع خاص، أو بالأحرى يخصني، وهو العودة إلى ثنايا الذاكرة البعيدة أيام الطفولة والصبا والشباب المبكر في القرية والغيط والمولد والنواصي والتعليم من الأوَّلي – واو مفتوحة ومشددة- إلى الجامعي وما فوق الجامعي، والجيش - أي الخدمة العسكرية- ثم السجن، ومن بعده السفر طريدًا شريدًا فقيرًا يقول بلاد الله لخلق الله!

فاصل قد يساعد على الاستراحة ولو قليلًا من وجع الدماغ والمناهدة، اللذين يفرضان نفسيهما على المرء أحيانًا، بعدما يقرأ أو يسمع ما يُعتقد أنه مغالطات تجافي وقائع التاريخ ودروسه، وتجافي المنطق وأصوله، وفي هذا كثير ما يجد المرء نفسه أمام نوعين من الخلق الذين صارت الكتابة مهنة لهم، فكان منهم من أهانوها بدلًا عن أن يمتهنوها، واقترفوها بدلًا عن أن يفعلوها!

وكان منهم من استعد لها وقرأ وفهم وأتقن ثم اجتهد فتأتي سطوره غير محتملة لزيف أو لبس، وقد يصعب في غمرة سخونة القضايا المطروحة ألا يتم التمييز بين النوعين، فتكون الحقيقة هي الضحية ولو كانت نسبية يختلف عليها.

ولقد كنت أعجب من الأستاذ هيكل - رحمة الله عليه - وقد حلت ذكرى رحيله منذ أيام قليلة، كيف أنه لا يرد على من يهاجمونه شخصًا وعقلًا ودورًا وإنتاجًا، ويشتط بعضهم لدرجة التجريح والسباب، وعندما أسأله لماذا لا يرد، فيرد: "يا شيخ.. بلاش كلام فارغ"، عبارة متكررة مسحوبة بإشاحة من يده ووجهه، بما يحفز السائل على أن يغير المسار، ويتجه إلى ما ليس كلامًا فارغًا.. والمرة الوحيدة التي بدت وكأنها رد منه على حملة أثيرت ضده، كانت كتابه عن قضية مصطفى أمين، وأذكر أنني بعدما قرأته، وكان حريصًا على أن يسأل البعض من ضيوفه عن رأيهم في شأن أو آخر، بل إن كل اللقاءات كانت تبدأ دومًا بسؤال منه للضيف "هيه.. إيه الأخبار.. وماذا عندك"؟! وسألني عن الكتاب فقلت إنني لم أقرأ من قبل نصًا أقرب إلى عملية ذبح وسلخ وتشفيه، دون أن تراق نقطة دم مثلما هو هذا الكتاب.

وفي ظني أن ما جعل الأستاذ هيكل يكسر القاعدة ويشتبك وبجسارة هائلة، هو أن الحملة عليه- آنذاك- كانت وكأنها قصف من راجمات صواريخ، إحدى منصاتها كانت رئاسة الدولة، وكتبتها، ومنصات أخرى تضم أنصار وتلاميذ وأتباع آل أمين، وأيضًا من اشتركوا في "الهلليلة"، ليس حبًا في مصطفى أمين، ولكن كرهًا في هيكل، واتجهت الحملة إلى اغتيال شخصية هيكل، حيث سعت لتجريده من سمات إنسانية سامية كالوفاء والعرفان بالجميل، كما أنها سعت أيضًا لإثبات أن القضية كلها مصطنعة مفبركة، وفي هذا إدانة مباشرة لجهاز المخابرات الذي ضبطها، وللنظام السياسي الذي أقدم على محاسبة المتهم.. ويبدو أن براقش جنت على نفسها، لأن هيكل لم يكن ليجد فرصة لإبراز ما لديه من وثائق ووقائع تخص القضية، إلا بعد أن بدأت الحملة واشتدت وأوغلت في المغالطات.

وفي مناخ الاشتباكات أو الجدل الساخن حول قضية من القضايا، خاصة إذا كانت تاريخية ومرتبطة بالصراع السياسي، يصعب اختيار الخصم الذي يتعين عدم إهماله، وفي هذا أتذكر واقعة كررت ذكرها غير مرة، إذ كنا في اجتماع تأبين الراحل المتميز الدكتور محمد السيد سعيد، وأثناء الانصراف تصادف والتقينا الدكتور عبد المنعم سعيد، وأنا على درج مدخل نقابة الصحفيين، وكان آنذاك رئيسًا لمجلس إدارة الأهرام، وقيادة متنفذة في أعلى مستويات الحزب الوطني، ويُقال إنه قريب من جمال مبارك وبابتسامته الهادئة ونبرته الأكثر هدوءًا سألني: "متى ستتوقف عن مهاجمتي.. ولماذا أنا بالذات؟"، وبطريقتي التي لا هدوء فيها أجبت بغير تفكير: "لأنك أنظف واحد في الحزب الوطني، والوحيد الذي يمكن الاشتباك معه.. أم أنك تريدني أن أنزل لمستوى رجب يا دي العجب.. أو الثاني صاحب طشة الملوخية"؟!.. وعندها اقترحت عليه أن يبادر من مواقعه الكبيرة في الأهرام والحزب إلى عقد دوائر حوار بين رموز الأطراف المختلفة في الحياة العامة، يكون أول همها هو "تقسيم العمل في الجماعة الوطنية"، وكيف تتكامل المعارضة مع الحكم في بعض المسارات، خاصة مسار العلاقة مع الدولة الصهيونية ومع الولايات المتحدة.. وحتى الآن وقد مرت في نهر الزمن سنون طويلة لم يستجب الرجل، رغم أنه مكتوب له الاستمرار في رئاسة مجالس الإدارة الصحفية، والاستمرار في الاقتراب بدرجة أو أخرى من دوائر صنع القرار واتخاذه.

أردت أن أقول بعد ذلك الاستطراد، إن هناك من لا يجب على المرء أن يلتفت إلى إهانتهم لما يقترفونه من كتابة.. وأن الأمثلة على ذلك كثيرة، قد يحين وقت للإشارة إليها.

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 19 فبراير 2019.

No comments:

Post a Comment