Thursday 7 February 2019

حتمية التماسك حول نظامنا الوطني





المؤامرة لا تصنع التاريخ، ولكنه لا يخلو منها، وهي فيما أرى تخطيط من طرف ما ضمن صراع بين أطراف بعينها، ولأنه يتسم بعدم المشروعية، وباتخاذ وسائل ملتوية منها رفع شعارات نبيلة ومضامين سليمة، للتغطية على ما ليس نبيلًا ولا سليمًا، فإنه يسمى مؤامرة، وقد عرفنا في تاريخنا العربي – الإسلامي ألوانًا من هذا الشأن، كان أشهرها فيما أظن رفع المصاحف على أسنة الرماح في الفتنة الكبرى.. ورفع أصابع نائلة زوجة عثمان بعد أن بترت بأسلحة من هاجموه، للمطالبة بدمه.. فيما الحقيقة أن الفئة الباغية هي من رفعت هذا وذاك، للوصول إلى الحكم ضمن صراع طويل بين الأمويين والهاشميين.

وفي سياقنا المعاصر الآن أذهب مع الذاهبين إلى أن موجة الكلام على حقوق الإنسان، ومن أعلى المستويات في التحالف الأطلسي، لن تكون هي الموجة الأخيرة، التي يتم رفع شعار نبيل ومضمون سليم للتغطية على الهدف الحقيقي، وهو وقف التحول في مصر نحو ما يبعدها عن حكم ذوي المرجعيات الدينية، مثل الإخوان والسلفيين ومن ينزع نزوعهم! وأتوقع أن تكون الموجة التالية تحت شعارات الدفاع عن الدستور المصري، والتعريض بدور القوات المسلحة في الحياة العامة المصرية.

وهذا التكتيك الغربي الأورو-أمريكي يعد الحلقة المعاصرة في سياق بدأ مبكرًا مع بدايات الاستعمار القديم، وبعد أن كانت البوارج والمدافع والاحتلال المباشر هي الوسيلة لفرض إرادة الغرب وكسر إرادة الدولة المصرية وتحجيم دورها، جاءت حلقة الحصار الاقتصادي والسياسي، ومحاولة فرض التغيير في مصر لتسير حسب الدور الذي رسموه لها، ثم جاءت حلقة أشد تعقيدًا اجتمع فيها أسلوب البوارج والطائرات مع الحصار، كما حدث في 1956 و1967، وبعدها خف الأمر قليلًا إثر حدوث تغييرات في التوجه السياسي – الاقتصادي المصري بالانفتاح والصلح مع إسرائيل، وها هي الحلقة الأكثر حداثة، وهي استخدام لافتات وشعارات نبيلة لغايات رذيلة.

ولن نعدم من ينتقل من المطالبة بحقوق ما يسمى بالناشطين والجمعيات غير الحكومية، إلى إعادة الكلام عن حقوق أقليات دينية وطائفية واجتماعية، ورفع وتيرة الكلام عن أوضاع دستورية وقانونية، والمؤكد أنهم سيبحثون كل فترة عن مسوغ لتدخلهم يحقق لهم تفتيت وتفكيك المحروسة، وفرملة وتائر نموها الاقتصادي، وتماسكها الاجتماعي، وإنهاء أية احتمالات لنمو دورها الإفريقي والعربي والدولي.

لقد استطاعت مصر بقيادتها الوطنية بعد 30 يونيو أن تتفادى وبقوة، انتشار الفوضى وتنامي العنف وضياع الدولة.. واستطاعت أن تتصدى للإرهاب الدموي المسلح الممول والمسنود من قوى إقليمية ودولية.. واستطاعت أن تسترد علاقاتها العربية والإفريقية، وأن تتقدم في هذا المضمار بقفزات واسعة مدروسة وموزونة.. واستطاعت أن تدير سياستها الخارجية بما يكفل فرض احترام إرادة شعبها على مختلف الأطراف، وشاهدنا تطور العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، ومع الدول الكبرى في الشرق، مثل روسيا والصين والهند واليابان، ونجحت مصر في تأكيد أنها ليست مصدرًا لتهديد أي طرف خارجي، سواء كان تهديدًا عسكريًا أو أيديولوجيًا، وأكد هذا النجاح قدرة متخذ القرار في مصر على الاستفادة من دروس التاريخ، خاصة دروس تجربتي محمد علي وجمال عبد الناصر!.. أي وباختصار استطاعت مصر أن تنزع أية ذريعة قد تتخذ من أطراف خارجية للتدخل في شؤونها وفرملة نموها وكسر إرادتها.. ولكن الذين أدركوا منذ أزمان طويلة أن المحروسة لو تركت لحالها وتماسكت داخليًا وتوازنت، فإنها تقوى، وإذا قويت فلا بد أن تلعب دورها الحتمي في دوائر محيطها، وعندئذ ستتقاطع الخطوط، وسيكون للدور المصري تأثير على فاعلية الأدوار الفرانكفونية والأنجلوسكسونية واللاتينية والأمريكية.. وعليه فلابد أن يجدوا مسوغات جديدة لحصار الدور المصري، وضرب المحاولة الجادة الراهنة التي تسعى لبناء وطننا بهدوء، ودون تهديد من أي نوع لأي طرف!

إن المأساة الكبرى هي أن تلك القوى الدولية ترى أن مجرد تماسك وتوازن وقوة مصر يعد خطرًا ينبغي مواجهته مبكرًا، ولذلك فنحن فعليًا أمام سؤال جوهري طالما ذكره كاتب هذه السطور في غير مناسبة، وهو كيف تستطيع مصر أن تقوى وتتقدم دون أن تمكن أطرافًا دولية من منع هذه القوة وهذا التقدم، أو ضرب مصر لقصم ظهرها وجعلها ترتد إلى نقطة الصفر دومًا وكأنها سيزيف الإغريقي، الذي عوقب بحمل الصخرة لقمة الجبل دون توقف؟!

نعم، إن العقل المصري النخبوي والجمعي مطالب الآن وبقوة أن يحاول الإجابة عن هذا السؤال، وأذكر في هذا الصدد أنني منذ سنوات عديدة طرحت السؤال على أحد أبرز رجال الخارجية المصرية فكان رده هو أن نتعود على تقديم التنازلات وضرب مثلًا بألمانيا، التي صعدت من وهدة الهزيمة الساحقة، والدمار الكامل إلى قمة الازدهار، لأنها قبلت بالتنازلات العديدة، التي فرضت عليها، أو حتى طلبت منها، ولذلك انتهت مشاكلها مع الأطراف المنتصرة، وتفرغت لبناء نفسها وأنجزت ما أنجزت، وهذا الكلام يترتب عليه سؤال آخر هو عن ماذا نتنازل، وما المدى المقبول للتنازلات؟!

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 7 فبراير 2019.

No comments:

Post a Comment